لماذا وإلى أين ؟

“مشاهد من قصة اغتيال” (ج1)

ليلى عيادي (الشاعرة المتمردة)

إهداء:
إلى الشهداء الذين سقطوا سهوا أو عمدا، فسقوا الأرض بدمائهم الزكية الطاهرة ليرحلوا عند اللاءات الأولى التي رفعوها، تاركين فكرة جابت فراغ الطبيعة وملأت قلوبنا المتمردة، لتصبح حوارا نردّده بكل حشدية.

إلى أرواح كل الذين رحلوا عنا قهرا، بدءا بأبتي، مرورا بأستاذي، صديقي ناصر وغيرهم. من ماتوا في سبيل حلمٍ ينتشلهم من ضراوة هذي الحياة القذرة.. لكنهم تركوا عبق ذكرى لا تنسى.

إلى كل من وجدتهم بطريقي المليئة بالأشواك فرفعوها بالورود، بدءا بأول عزيز بالدماء المشتركة حتى آخر عزيز استطعت عبرهم النهوض من وادي الانكسار، إنهم رفاقي في نهر ملئت مياهه بالصدق المرشوش بعطر الصّداقة.
إلى أمي، وعذرا أيتها البدوية لأنني تركت اسمك بأسفل القائمة، لكن القلم لم يطلب الإذن مني حين كتابة أسمائهم، يكفي أن أناديك أمي لتصحو فيَّ الأوجاع فجأة… وأندم أني أجعلك تتعذبين وأنت ترين مشاكستك تحتضر أمامك ولا تدرين بأنها ستغادرك قريبا، ولن تترك إلّا ركلات أهدتك إياها وهي جنين مشاغب ومصمصات بصدرك الملاعبي.
لأجل كل هؤلاء

أكتب مرّة أخرى…

لم يكن يريد منع الأمل من الدخول إلى صربها، وهي لم تمنعه من إغلاق الباب… فذاك الأمل راودها بصمت رهيب، إلّا أنَّه باع ما يغطيها من قماش لجداول النسيان وأصبحت وسط كل ذلك ذكرى جميلة ينهي بها بهاء ليلة سمره.
كانت تنتظر وصول منتصف الليل لمضاجعة السراب علها تجد لأسئلتها الجواب، ثم تتذكر لهنيهة أنه مجرد سراب، لا اسم له ولا صفة. فهي التي اعتادت على دائرة وجودها وضاجعت لوقت طويل سرابها السّرمدي، تتساءل كيف تغير من كل عاداتها وتتخلص من آثار الضجيج بأذنيها ورائحة السجائر بأنفها، ثم صور جيفارا أعلى الجدار. لم تكن لتصدق أنها كانت وسط ذلك وفجأة تنكرت لنفسها وتنكر الوجود لها، تلك كانت رحلة جديدة وتحدٍّ جديد تواجه به عقبات الحياة، وترفض به كل صدقات الآخرين.

الرّحلة كانت شاقة وكل رآها حسب قربه، بعده، كرهه أو حبه لها… فهناك من قال أنّها لم تتغير بل غيرت محيطها فقط. وهناك من رأى فعلها قسوة على ما تبقى منها…
ووسط كل هؤلاء، كان هناك من يقف بجوار الحلم واهما في التشبث بناصيته. فكانت تردِّد بعض الأبيات الشعرية المتلونة على ذاكرتها من مخزون شعري عريق، يقول:
البياض من سلالته
يشدني إليه
وأنا بين ذاته
أرتب ذاتي
لأخرج بالمعنى
من رحم السّؤال!
وكأنّها لم تتأكد بعدُ من حبه لها، كانت الشكوك تنخر جسدها النحيل يوما بعد آخر، وهو لا ينفك ينظر إليها نظرة البريء من التهة، تهمة الريّادة لا الخيانة، التجاهل لا الكره…
فهما رسما سويا طريقا وفي وسطه قررا تغيير وجهته.

لكنها لم تفكر بمنطق نوال السّعداوي وتعتبر الرّجل الشرقي جبانا، ولا بمنطق أحلام مستغانمي وتظن في النسيان أحلى حل للمحلول العاطفي، يفكّه ويفقده خمولته، لم تفقد كل الثقة لكنها عاشت شهرا واهما بالشكوك قبل حلول العام الجديد.

لعل الكلمات التي رسمتها بجدارية ثورية بزنزانتها، الرسّائل المصورة أعلى شاشة هاتفها وصورها في دائرة رفاقها -سابقا- وهوامش نصائح الكثيرين لها خير دليل على أنها قد استسلمت وأخيرا للصدفة. فأخذت بيد نصيبها من الجلل المصاب، ثم حملت نفسها في اتجاه طريق بعيدة… هي تلك الطريق التي أبعدتها عنها، وها هي الآن تكون جنين مأساتها برحم ملوث بالألم…
كل ذلك حدث داخل زنزانة شهدت الانكسارات، حبات الرمّل، قطع الشكولاتة التي أهداها الطويل والسيلفيات العديدة الشاهدة على موتها، حفرت مكوثها الأبدي…
وهو ما حاولت خطه في قصيدة لها، قائلة:
هلوسات فجر
أنا السجينة رقم ۱۱٤
زنزانتي قزحية الألوان
أبحر فيها حتى أرى نهايتي
أنا التي تأويني عمارتي
تحميني أسوارها من حزن البشاعة
وتفتح لي آفاق البؤس والحرمان
تناديني حتى يبح صوتها
تحميني سجينة مطيعة
ما بك أصبحت كالجثمان
لا تحركين ساكنا أمام النسيان
لا تعلمين لوجودك غاية ولا برهان
ما بك أصبحت عجوزا
وأنت لا زلت بالعشرين
تجاعيدك رسمها الزمان
وشيبك بعينيك..!
يروي ألف قصة
أما يديك فصارت ملتوية
لا تحسن لمس شيء، ولا البوح والكتمان…
ما بك صغيرتي
أكثرت الأخطاء
حتى نسيك المكان
وتجاهلك الزمان
حتى صرت نكرة دون عرفان
أين “أل” التي كانت تضع لك ألف حسبان؟
أناديك…
لم لا تجيبين؟؟
بالله عليك أين تذهبين؟
وكيف تخرجين يديك من ذاك العجين!
فأنت لا تحسنين الافتراق
تضاجعين فيه السراب وتقبلين..
قولي شيئا ما..
أين ذهبت ثرثرتك الدائمة؟
حينما كانت الحروف تصارع لأجل البقاء؟
لوجود ملكة سرقت كل الأماكن
وساحرة أبطلت كل المحاسن
تصمتين الآن!!
وتحاسبين شيبك على كل الأخطاء
تحتفلين بعيد حبكما
عيد الشقاء
تداعبين أحاسيسك
لتبقوا أوفياء
لصرخاتك داخل زنزانة ملطخة بالوعود
تحلمين دون قيود
تهاجمين ليلك الموعود
وتصيرين كالفراشات بالوجود
لا تحسن الجلوس دون تذوق حلاوة الورود…
لكنك اختفيت فجأة
احترقت صغيرتي
اختفيت وبقي الرماد، فهل من مزيد؟
أسأل وما من مجيب
هل من مزيد؟؟
أجل، هي كانت نقطة بخط مستقيم، فكيف اعوج فجأة؟
بدأت تحاول لمس مكامن الخطأ، تتذكر أول ذي بدء بداياتها، كيف كانت بكل زيارة للكلية تسقط بفخها ثائرا يرفع إسقاط النظام ولا يكاد يسقط هو سهوا أو عمدا بين عينيها. لم تكون بالجميلة فلون أسنانها كفيل بهروب جيش عرمرم من جيش الجهلاء بأرض قاحلة، لكنها امتلكت من الدّهاء ما يكفي لإطاحة رجل شرقي متحرر شكلا ودعشوش من الداخل. هي لم تكن الأسطورة، بل هم من كانوا الأسطورة المقنَّعة… إلا أن شغفهم لم يزدها إلا شغفا ثوريا تريد به اعتلاء درجات الرُّقي الفكري. فكافحت إلى أن وصلت بر الأمان، إلى آذان تسمع أكثر من فم يتكلم، إلى عينين تريان العمق لا مجرّد الملامح… فوجدت فيها من يصلح فيها أخطائها اللامتناهية. وباستدراج وصدق لا متناهيين وصلت إلى الباب وملكت سكان المنزل كلّا واحدا، و”يا ريتني لم أدخل” ترتدّ بأذناي: “يا ريت ما حصل لم يحصل..”
دقت أجراس سنة أخرى، لم تفكر كيف تبدأ وكيف تنتهي لأن مشارفها سحر ورديٌّ على ضفاف المضيق الرائع، على حافة أكتوبر، شهر ميلادها وموتها، معا.

كان التحول بمثابة ملح بكوب ماء، تحلّل ولم يبق منه إلا المذاق، لكنه كان مرا مرارة قساوتها على نفسها بدأتها بالتهام الكتب الحمراء وتسجيلها بدفتر أحمر، لون الدم الذي أصبحت تعشقه… كيف لا وهو لون الشيوعية ولون دماء شهداء الوطن الذين أصبحت ترتل أسماءهم في كل حشدية، فهي التي آمنت بمقولة جورج أورويل: “لن يثوروا حتى يعوا، ولن يعوا حتى يثوروا”. ثم التهمت ما تبقى منها بالكلام الكثير عنهم، كانت ترسم لهم في كل شبر حبات لقاح ليلحقوا بها أكثر، فقد أحبّت خضرة ربيعهم التي لم تظنها ستصبح فيما بعد خريفها الأبدي.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x