لماذا وإلى أين ؟

هل انتهى دور المثقف؟

هو ذا السؤال الذي يطرحه مؤرخ إسرائيلي مثير للجدل، هو شلومو صاند، في كتاب صدر مؤخرا في فرنسا باللغة الفرنسية مترجما عن العبرية «هل انتهي المثقف الفرنسي؟». وشلومو صاند سبق أن فكك أسطورة الشعب اليهودي في كتاب أثار جدلا داخل إسرائيل وخارجها، وهو من معارضي الاحتلال الإسرائيلي والمناصرين لحق الشعب الفلسطيني.

يُنقبّ الكاتب هذه المرة في مسار المثقف، خاصة في الحالة الفرنسية، باعتبارها المحضن لدور المثقف الناقد، منذ عصر الأنوار. يمتلئ الكتاب بأسئلة عدة. هل انتهى حفدة فولتير، الذين يعيدون النظر في الواقع القائم؟ وهل خفت بريق ذرية سارتر ممن يملكون ضميرا؟ هل توارى من كان سلطة مضادة وحاملا لقيم؟ يهمنا الموضوع طبعا، لأن دور المثقف في العالم العربي موضوع سجال؟ هل يمكن للمثقف في العالم العربي أن ينجح في ما أخفق فيه السياسي؟ هل يستطيع أن يزيح التكنوقراطي الذي تربع على عرش الاستشارة والقرار والتوجيه؟ هل ينبغي أن نقارن دوره بما يجري حاليا في الغرب، أم علينا أن نغور أعمق لكي نتلمس أوجه المقارنة في التاريخ، مع لحظة الاحتقان التي عرفتها المجتمعات الغربية في القرن الثامن عشر، أمام سطوة الكنيسة وسلطان الدين وبطش الملكيات وزيغها، وبتعبير آخر، ألا يجوز أن نقارن ما هو قابل للمقاربة، الوضع الحالي في العالم العــربي والاحتقان الذي عرفته أوروبا في القرن الثامن عشر.

تظل الحالة الفرنسية المرجعية التي هيأت لبروز المثقف ومهدت لدوره في الشأن العام. أخذ المثقف عن رجل الدين سلطته الروحية، ظهركمشاغب في حضن الملكية والحاشية، كما حدث مع فولتير، لينتهي متمردا. غذّى فكرَ الأنوار وقدح الثورة، ثم حمل مشعلها وأفكارها وسعى في نشرها.. أصبح فاعلا. تطور دوره وأصبح حاسما مع ما أرساه الفيلسوف سان سيمون، أول من نحت كلمة انتلكتيال ينتيلليچتويل التي يُعرف بها المثقف في اللغة الفرنسية. يحيل المصطلح إلى من يشتغلون بالأفكار، ويحملون قيما وضميرا، ويشكلون جبهة ضد ما كان يسميه سان سيمون بالأفكار المسبقة. لا يمكن للمجتمعات أن تتحرر، حسب هذا المفكر الذي يعتبر رائد الفكر الاشتراكي، من دون هذه الشريحة التي تشتغل بالأفكار وتحمل ضميرا.
واللحظة المفصلية المهمة في مسار المثقف ومن دونها لا يمكن فهم الماركسية هي التي وضع متنها أب الوضعية أوكست كونت، الابن الروحي لسان سيمون. المثقف يستند على أداة علمية، من أجل تفسير الواقع وتغييره. هي فكرة مسلم بها في كل أدبيات الماركسية، ولكن جذورها تعود إلى أب السوسيولوجيا، أو من نحت المصطلح، أوكست كونت.. المثقف إذن لا يكتفي بتفسير العالم، بل يعمد إلى تغييره.

القرن العشرون في أوروبا هو قرن المثقف بامتياز، هو من انتصب سلطة روحية مكان الكنيسة، إلا أن شلومو صاند يقف عند الانزياح الذي بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تعد المجتمعات الغربية يطبعها النزاع، وأخذت تنحو نحو التوافق.

يُذكّر شلومو صاند في كتابه بشيء أساسي وهو أن ثورتين عالميتين غيرتا معالم العالم، وألهبتا أحلاما كونية، الثورة الفرنسية والثورة البولشيفية، كانتا شأنا ثقافيا، أو تعبيرا أدق كانتا شأن مثقفين. لم يكن من قدح الثورتين نبلاء ولا رجال دولة ولا بنكيون ولا قادة عسكريون، ولكن كانوا «هامشيين» زاوجوا بين المضاربة الفكرية والتنظيم.

القرن العشرون في أوروبا هو قرن المثقف بامتياز، هو من انتصب سلطة روحية مكان الكنيسة، إلا أن شلومو صاند يقف عند الانزياح الذي بدأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تعد المجتمعات الغربية يطبعها النزاع، وأخذت تنحو نحو التوافق، وكان من نتائج بروز دور الدولة الراعية، تواري المثقف الراديكالي أو الناقد. يمكن اعتبار كتاب دانيل بيل «نهاية الأيديولوجية» اللحظة المفصلية في انتهاء دور المثقف النقدي في الغرب، وبداية مثقف «مدجن»، يشتغل داخل بنيات، في إطار تخصص، تحت تأثير عنصر أساسي يمارس صولة أو ديكتات وهو التلفزيون، ما أفرز المثقف الإعلامي الذي لم يتوار إلى الآن. الحلقة الأخيرة التي أجهزت على دور المثقف النقدي، هي ما بعد سقوط حائط برلين. رصد شلومو صاند هذه الشريحة في فرنسا من خلال نموذج الكاتب ميشيل هولبيك، الذي لا يتورع عن انتقاد الإسلام والمسلمين، في تعابير لا تخلو من فظاظة وفجاجة. طبيعة المثقف النقدي أنه يحترم خصمه، ولا يوظف الكراهية ضده وإن اختلف معه. المثقف المحافظ لا يتورع من التضخيم والافتراء والشيطنة، بل الكراهية.

من خلال استقراء تاريخ أوروبا خاصة، نجد أن دور المثقف اقترن بالمواجهة مع مؤسسات معطلة لطاقات المجتمع، والمثقف هو من حرر طاقات مجتمع من خلال خلخلة البنيات التي تعوقه. ما بين الحربين العالميتين صدر كتاب في فرنسا كان له وقع كبير في أوروبا، لجوليان بندا بعنوان خيانة «المثقفين» چليرچس ولعل الأقرب في الترجمة كلمة علماء بمعناها الديني. الفكرة الأساسية في هذا الكتاب هو أن المثقف ليس من يحترف الإدانة ولكن من يفكك بنية، ويفهم واقعا، يسعي أن يؤثر فيه، من خلال الائتمار بمحددات ثلاثة: العقل والحق والعدل. هو الثلاثي المكون لوظيفة المثقف.
المثقف يسعى للحق ويأتمر بالعدل، ويوظف العقل. من دون العقل من العسير الحديث عن المثقف. هذا التعريج يفيدنا لكي نفهم المسؤولية المنوطة بالمثقف في العالم العربي. لا يمكن الاكتفاء بتفسير الواقع، ولكن العمل على تغييره من خلال تحرير طاقات المجتمع من القوى التي تعرقله وتشكل عناصر إعاقة، عن طريق تحليل عقلي للواقع. والبنيات التي تحول دون تحرر المجتمعات في العالم العربي هي الأليغارشيات والطغمات والمؤسسات الأمنية والدينية والثقافة التقليدية المحافظة. والعالم العربي وما يمتلئ به من ديناميات، وما يعرفه كذلك من تعثر محتاج لمن يفسر تلك الدينامية ومن يعين في توجيهها الوجهة الصائبة، من أجل التغيير السلس.

ولكن المثقف لا يوجد من ذاته، لا بد للمجتمعات أن تستشعر الحاجة إليه، ومن دون هذه الحاجة، ومن دون إحاطة هذه الشريحة بالرعاية، فقد تبرز كشهب ما تلبث أن تهوى في السديم، أو توظَّفُ خبرتها لفائدة الآخر. التحليل الذي قدمه مروان معشر من أن الديناميات الحالية شأن جماهير من غير نخبة، نصف الحقيقة، والنصف الثاني هو أنه لا يمكن فصل الديناميات الإيجابية للجماهير عن دور المثقف في التوعية والتأطير والتنظيم.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

2 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
أحمد التوري
المعلق(ة)
23 أغسطس 2019 01:08

و لو أن الموضوع مستعصي شيئا ما علي نظرا لكونه من اختصاص المفكرين و المبدعين الكبار الذين أكن لهم كل التقدير و الإحترام ، فأقول إنه لابد أن تعطى الكلمة للمثقفين لأنهم النور الذي يضيئ و يزيل الظلام الذي يستفيد منه انتهازيون أفسدوا وقلبوا كل الموازين لصالحهم . لقد صدمت و أنا شاب في السبعينات من القرن الماضي من عدد الجهلة الذي كان يشكل الجزء الأكبر لممثلي الشعب المغربي في البرلمان وكذلك على مستوى الجماعات . و كأننا نرى فرض الجهالة بكل ألوانها على بلد . واي إختيار هذا الذي ما زلنا نعيش نتائجه الى يومنا هذا ؟ المسألة تحتاج الى نقد ذاتي من طرف كل المتداخلين لأجل إيجاد مخرج من هذا المستنقع الذي أضر بالبلاد و العباد .

يونس العمراني
المعلق(ة)
22 أغسطس 2019 23:26

بيد أن المتأمل اليوم في واقعنا الحاضر المركب والمعقد، سيتأكد من خفوت صوت المثقف وانتكاس إشعاع فكره، بل إن البعض أصبح يتحدث عن مجتمع اللامثقفين ومجتمع اللاثقافة. فماهي أهم الملامح السوسيو-ثقافية لهذا المجتمع الجديد؟
مجتمع اللاثقافة: أفعى متعددة الرؤوس
قد لا نبالغ في القول إننا نعيش في عصر تتحول فيه البنى بسرعة خاطفة وبرقية حتى أننا لا نكاد نشعر بتلك التغيرات التي ما انفكت تعصف بحياتنا بين الفينة والأخرى: فكل المجتمعات قاطبة في جميع أنحاء المعمورة تتعرض لطفرات سريعة أحدثت خللا في جميع المستويات: فكأننا حقا إزاء انتقال من عصر أرضي إلى آخر ربما سيكون في الفضاء أو هو عصر افتراضي تكون فيه السيطرة لوسائل التواصل الاجتماعي التي نجحت في فرض وجودها منذ سنوات. فالبشرية دخلت حقبة جديدة يسميها علماء الأنثروبولوجيا عصر ‘الإنسان السبرنتيقي’ وهذا ربما ما قد تنبأ به الفيلسوف هيدغر حينما أعلن عن نهاية الفلسفة وبداية عصر “السبرنتيقا”. فلا ريب إذن في القول إن جل هذه التحولات كانت نتيجة لتلك الظاهرة التي ما انفكت تثير تساؤلات وتؤرق عقول العديد من المفكرين ألا وهي ظاهرة العولمة التي نجحت أيما نجاح في جعل العالم بأسره- من أكبر مدينة كوزمبوليتانية إلى القرية النائية الصغيرة- مسلعنا وخاضعا لمنطق اقتصاد السوق. في عصر العولمة المتوحشة بكثرة العرض ومنفسة الطلب
فالمثقف قاد مسيرة الفكر الإنساني من عصر النهضة الأوروبية إلى الثورة الصناعية مرورا بالثورة الفرنسية والنهضة العربية الحديثة. فكل هذه الأحداث الصاخبة لا يمكننا أن نكتشف من تحت ركامها إلا ذلك الفكر الذي يعتمل وفق نظام هادئ وصارم: إنه فكر المثقف الذي ما انفك ينشد التغيير ويروم “الانتقال من حال إلى حال” كما يعبر على ذلك العلامة ابن خلدون في ‘المقدمة’. وفي هذا الانتقال لا بد من جسر ينتقل عبره المجتمع والذي لا يمكن أن يكون إلا المثقف وهذا هو في رأيي معنى “الثورة الأبدية”

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

2
0
أضف تعليقكx
()
x