لماذا وإلى أين ؟

محاكمة بوعشرين تحاكم قيم المجتمع

كلما تفجرت فضيحة ما إلا وانكشفت الأمراض المزمنة التي يعاني منها المجتمع المغربي، فتتبع العورات والتشهير وانتهاك الحياة الخاصة للإنسان في ظل موجة التطورات التكنولوجية التي يشهدها العالم اليوم، تشكل سما قاتلا تدسه جموع متعاطي شبكات الإعلام والاتصال لضحاياهم ولغما يشتت أسرا وقد ييتم أطفالا ويُثكل أمهات، خاصة عندما تكون المرأة طرفا، الأمر الذي يُبرز باليقين أن الجمع بين سكيزوفرنية الشخصية المشرقية و تكنولوجيا الالفية الثالثة هو إنهاء لكل احتمالات تبني قيم الحداثة والإنسانية، وانتقال المجتمع إلى المدنية.

وضحايا انتهاك الحق في الصورة بالمغرب، كثر منهم من كان ذلك سببا لمصرعه، كنادلة مقهى بنجرير التي أحرقت نفسها حتى الموت، بسبب نشر فيديو تم تصويره أثناء اغتصابها من قبل ذئاب بشرية، واحتمال إعادة مثل هذا السيناريو في ملف بوعشرين، كبير جدا، فأطرافه تعرضوا لانتهاك حقهم في الصورة بشكل صارخ، وتم التشهير بهم عبر تداول محاضر الاستنطاق التمهيدي، في شبكات التواصل الاجتماعي مرفوقة في غالب الأحيان بتعاليق سخرية وتشفي والإهانة. وكأننا في حالة “سيبة”.

إن الانتهاكات التي مست أطراف هذا الملف على مستوى الحق في الصورة وما في ذلك من مس بحياتهم الخاصة، يسائل الدولة والمجتمع والصحافة، فالدستور والقانون والمواثيق الدولية التي وقع عليها المغرب تستوجب من الدولة التدخل لوقف هذا العبث، ضمانا لعدم التأثير على القضاء والرأي العام، في قضية لازالت تفاصيلها غامضة، وأخطر من ذلك أننا أمام احتمال التسبب في إنهاء حياة “ضحية” أو أكثر. والمنطق نفسه، يجب أن يسري في تعاملها في القضايا ذات الحساسية السياسية أو الإجتماعية كتصوير المعتقل الزفزافي عاريا مثلا.

كما أن المجتمع أبان عن حالة فضول مرضي عام، وانفصام حاد معبر عنه بالتذبذب بين التخلف وقيم المدنية، في تعامله مع تطورات “ملف بوعشرين”، فالبحث عن حسابات المشتكيات بشبكات التواصل الاجتماعي، وانتقاء صور منها مع نشرها وإرفاقها بتعاليق غالبا ما تعكس النظرة المتحاملة على المرأة داخل مجتمع ذكوري. أو نشر صور المتهم لوحده أو مع بعض أصدقائه السياسيين وإرفاقها بالشتائم والازدراء، أو رسم كاريكاتورات لبوعشرين تحوم عليه نساء عاريات، وترويجها في أوسع نطاق، ليست إلا تجليات لمأزق مجتمعي، ثقافي، تربوي وأخلاقي .

ولعل الجمعيات وخاصة الحقوقية التي تشكل ضميرا للمجتمع، لاذت بالصمت واتخذت لنفسها موقع اللاموقف، باستثناء بعض الأصوات المحتشمة التي طالبت بوقف هذه الانتهاكات، وتناست أن حماية الحياة الخاصة، حق لا يتجزأ من المنظومة الكونية الحقوقية، وتستحق منا الدفاع عنها برغم من كل السياقات والظروف، فالمبدأ هو الأصل.

أما الصحافة فهي في وضع جد حرج، ليس لأن هذا الملف يوصم السلطة الرابعة بنوع من الجرائم كما يظن البعض. بل إن تعامل بعض وسائل الإعلام ، هو ما وسم الصحافة بلا مهنية ولا حيادية، وفي بعض الأحيان بالتفاهة. فالمطلوب كان ولا يزال هو الالتزام بأخلاقيات المهنة والتحلي بالتجرد والموضوعية.

ولا شك أن أطوار  هذه المحاكمة المثيرة للجدل، ستزيد من تعرية مساوئ المجتمع، لكنها كذلك فرصة لامتحانه من جديد في مدى قابليته لتبني قيم المدنية، حيث يدافع عن حق المتهم في البراءة حتى تثبت إدانته، وحق المشتكيات “الضحايا المفترضات” في الإنصاف، ويحترم حق المتهم والمشتكية في حفظ صورتهما وصون كرامتهما من التشهير، بشكل متساوٍ.

فهل تنتصر قيم الانسانية المتحضرة فينا، أم سنستمر في الإصطياد في المياه العكرة لنسقط في قاع التخلف دون مقاومة؟

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
ملاك
المعلق(ة)
16 مارس 2018 22:15

مقال في صميم المبتغى لذى كل غيور عن القيم المثلى التي يفترض ان نسعى اليها كحاملي هم هذا المجتمع. فعلا لقد غرقنا في مستنقع، إن لم نقل مستنقعات البذاءة والبلادة والتسفيه والإستخفاف بكل القيم، ولو في حدها الأدنى.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x