لماذا وإلى أين ؟

فائض السلطة.. المفهوم والأسباب والتداعيات

عبد المولى المروري

السلطة شأنها شأن باقي الأنشطة الإنتاجية البشرية الأخرى ( صناعية وفلاحية وخدماتية …)، تعرف عجزا وفائضا، تضخما وكسادا، توازنا واختلالا…

والفائض هو ما زاد عن الحاجة والضرورة، ويمكن أن يتحول إلى رأس مال جديد، أو يتحول إلى خدمات اجتماعية أو تعليمية أو صحية تحقق رفاهية المجتمع وتنميته.. كما هو الشأن بالنسبة لتركيا وماليزيا…

كما يمكن أن يقود فائض الإنتاج إلى البدخ الفاحش والاستهلاك المفرط الذي يؤدي بالفرد والمجتمع إلى الهلاك والخراب السريع.. كما هو الشأن ببعض دول الخليج ( قريبا )..

بالتالي، ففائض الإنتاج هو سلاح ذو حدين، وله اتجاهان، وتتوقف فوائده ومفاسده على نضج ووعي صاحبه والمجتمع الذي يتحقق فيه ذلك..

فإذا كانت مجالات الأنشطة الإنتاجية الاقتصادية تشمل الصناعة والفلاحة والخدمات وغيرها.. فإن أنشطة السلطة ( التشريعية والتنفيذية والقضائية ) تتمثل في إصدار تشريعات وقوانين وقرارات وأحكام، وبسط السيادة على الفرد والمجتمع واستعمال القوة بطريقة شرعية ومقبولة اجتماعيا لفرض النظام وتطبيق القانون، وإدارة الجماعة وخدمتها وتسيير شؤونها..

وإذا كان فائض الإنتاج سيفا ذا حدين، قد تكون له فوائد وقد تكون له مفاسد، فهل الأمر نفسه ينطبق على فائض السلطة؟ وهل هناك تقارب أو تشابه بين فائض الإنتاج وفائض السلطة؟

إن توازن السلطة واتزانها يقتضي وضع قواعد متوافق عليها بين أجهزتها التي تمثلها، والمجتمع الذي يخضع لسلطتها وينقاد لها، تحفظ للشعب كرامته وتحمي حريته وتحقق له مستلزمات العيش الكريم في ظل عدالة اجتماعية وقواعد الحكامة والشفافية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة…

إن دور السلطة التشريعية المتمثلة في البرلمانات يتمحور أساسا في سن القوانين والتشريعات التي تنظم حياة المجتمع ومؤسساته، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا .. في كل مناحي الحياة، داخليا وخارجيا.. وكذا في ممارسة الرقابة على الأداء الحكومي من خلال الأسئلة ووضع الثقة وممارسة التصويت على مشاريعها المعروضة على البرلمان…

أما السلطة القضائية فهي السلطة الوحيدة التي تنفصل في مسؤوليتها ولا تتدخّل بها أيّ من السلطات الأخرى، وهي التي تمثل القضاء في الدولة، وتختصّ هذه السلطة في فصل النزاعات وتحقيق العدالة من خلال المحاكم ومجلس القضاء، وكذلك هي المسؤولة عن مصداقية القوانين التي تُطبّق في الدولة وتفسير قوانينها.. وتقوم على مبدأ الاستقلال في عملها لضمان الحقوق، وتحقيق العدالة والحريات، وسيادة القانون.

من خلال أدوار واختصاصات السلطتين التشريعية والقضائية يتضح أنه من غير الوارد الحديث عن فائض السلطة لديهما كمؤسستتين دستوريتين وجهازين مستقلين، بصرف النظر عن شخصية وطبيعة أشخاصها الممثلين بهما…

وتبقى للسلطة التنفيذية اختصاصات واسعة وخطيرة جدا، ، فهي تختص أولاً بتنفيذ القوانين التي تقرها السلطة التشريعية، وهي في إطار ممارستها لهذا الاختصاص تقوم بإصدار اللوائح règlements المفسرة والمنفذة والمفصلة للقوانين، باعتبارها أقرب للواقع، والأكثر فهماً له من السلطة التشريعية، وكذلك تختص السلطة التنفيذية بمهام حفظ الأمن الداخلي، والدفاع الخارجي، والصحة والتعليم والتخطيط والإعلام والثقافة والصناعة والتجارة، وإدارة العلاقات الدولية، إضافة إلى بعض الاختصاصات الاستثنائية التي تمنحها صلاحيات واسعة جداً في حالة الضرورة.

من هنا يمكن أن يصبح للسلطة التنفيذية فائضا في سلطتها حسب طبيعة النظام السياسي، وأهدافه ومصالح رجالاته…

ويمكن إعطاء بعض الأمثلة البسيطة على ذلك:

1/ حق استعمال القوة والعنف: هو حق تحتكره السلطة التنفيذية وحدها، ولا تفوضه لأي جهة، وتستعمله عند الضرورة القصوى من أجل حفظ الأمن وفرض النظام والاستقرار… وكلما كان النظام السياسي نظاما ديمقراطيا تحترم فيها القوانين والمؤسسات، كلما كان استعماله للقوة منضبطا وخاضعا للرقابة القضائية والبرلمانية.. وكلما كان الحكم فرديا أو استبداديا أو ديكتاتوريا إلا وكان استعمال العنف والقوة فوق أي محاسبة أو مراقبة، وهذه إحدى مظاهر فائض السلطة..

2/ حق سن قوانين وتشريعات خارج البرلمان: ويكون ذلك عبارة عن ظهائر ومراسيم قانون، أو مناشير أو قرارات، خاصة في الفترات التي لا تنعقد فيها الدورات البرلمانية، أو في حالات الظروف الاستثنائية والطوارئ، مثل الحروب والكوارث … إنها من أخطر الفترات التي يمكن أن تمرر فيها العديد من القوانين الخطيرة جدا، قد تكون ماسة بالحريات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أو حماية أو تفويت مصالح لفئة أو نخبة أو جهة معينة، أو عقد اتفاقيات خدمة لأجندة معينة، أو توسيع صلاحيات جهاز أو مؤسسة، أو إحداث لجن ومجالس وهيئات بلا دور أو معنى بتعويضات خيالية، أو توقيع عقود تجارية، أو تفويت صفقات ضخمة لفائدة لوبيات معينة.. وهذا هو أخطر مجال يمكن أن يعرف أكبر فائض للسلطة.

3/ ما تحظى به السلطة التنفيذية من صلاحيات واسعة يشجعها على بسط نفوذها وسيطرتها على السلطتين التشريعية والقضائية، وتجعلهما تحت نفوذها ووصايتها باستعمال قاعدة “العصا والجزرة”، وتعمل على إضعافهما وإفراغ موضوع الاستقلالية من مضمونه ودوره ورسالته… وذلك عن طريق أدوات وآليات الترهيب والترغيب التي تتقنها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التابعة لها، من أجل صناعة خدام وأولياء داخل السلطتين التشريعية والقضائية، ينفذون دون تردد ما تأتيهم من تعليمات.

4/ إن المقصود هنا بالسلطة التنفيذية ليس الحكومة المنتخبة أو شبه المنتخبة ( أي جزء منها منتخب وبعض أعضاءها معين )، بل إن المقصود بالسلطة تلك التي تعتبر فوق كل السلطات، وما الحكومة إلا أداة من ضمن أدواتها وآلية من ضمن آلياتها..

والجزء المعين من هذه الحكومة هو التابع بشكل مباشر للسلطة العليا، ولا علاقة له بالجزء المنتخب من الحكومة.. وعلى رأسهم وزارة الداخلية التي تستعمل آليتين جبارتين، أجهزتها الأمنية والاستخباراتية التابعة لها، ووضع مراسيم قوانين تخدم توجه السلطة.. وهذا أحد مداخل فائض السلطة الذي يظهر بين الفينة والأخرى، وحسب ما تقتضيه الوضعية السياسية والأمنية والاجتماعية..

يأخذ فائض السلطة ” مشروعيته ” مفهوم «السيادة» ‪Le Souveraineté‬. وقد عرَّف الفقيه الفرنسي جان بودان‪Jean Bodin ‬السيادة بأنها: «السلطة العليا المطلقة الأبدية، وتفصيل ذلك في نظره، أن الشعب في الدولة يتجرد من كل سلطة لمصلحة الأمير بوصفه صاحب السيادة، ومردّ ذلك إلى أن الأمير هو «ظِلُّ الله» ‪The image of God‬ على الأرض، فهو في سيطرته على الجسم السياسي يشبه الله في هيمنته على الكون. ومن ثمّ، فكلاهما يحوز سلطة مطلقة لا تحدّها أي مسؤولية تجاه أحد على الأرض.

وبصرف النظر عن التعريف المبالغ فيه الذي عرف به بودان مفهوم السيادة، إلا أنه يبقى قريبا من معنى الحديث الموضوع والمنسوب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ” السلطان ظل الله في أرضه …”

وعليه فالسيادة اكتسبت مضموناً إيجابياً، نأى بها عن مجرد كونها رمزاً لاستقلال الدولة، بل أضحت عنصراً أساسياً في تكوين الدولة ذاتها، ومظهراً من مظاهر سلطانها، فاتسع مضمون السيادة، وشمل جميع السلطات التي تمارسها الدولة، سياسية وعسكرية وأمنية ودينية …(1).

وبالتالي فمن منطلق السيادة، يمكن أن تمارس صلاحيات واسعة ومطلقة من سن وإلغاء التشريعات، وإعلان الحرب، وإقرار السلام، وتعيين وإقالة كبار موظفي الدولة والوزراء، وإقامة العدل بين المواطنين من خلال النظر فيما يعرض عليه من شكاوى واعتراضات والتماسات تتعلق بالأحكام والعقوبات الصادرة عن جميع المحاكم، ونقض الأحكام الصادرة عن محاكمه الخاصة، وإصدار العفو الخاص… إلخ (1).

وبناء على ذلك فهي سلطة عليا، فليس فوقها سلطة، بل ليس مثلها سلطة داخل الدولة، وكل من في الدولة من أفراد وجماعات خاضع لها تابع لأوامرها، ولهذا قد يسمى المواطنون تبعة الدولة ورعاياها لأنهم ملزمون بتنفيذ أوامرها.

في إطار هذا الوضع، وتحت ظله، تنمو أجهزة وكيانات وشخصيات مستفيدة منه، تشتغل في أطاره، ومن أجله ومن أجل استمراره، وتكريسه كمنظومة سياسية عميقة وشمولية ومستمرة… في كل مفاصل وتفاصيل البلد، وكل مؤسساته وأجهزته، الإدارية والإعلامية والمالية والأمنية… وهو ما اصطلح عليه ” الدولة العميقة ” (2).

إن السلطة السياسية في الشق المتعلق بالسلطة التنفيذية، وفي ظل السلطة العليا المعفاة من أي رقابة أو مساءلة سياسية أو دستورية، وفي ظل ترسيخ الدولة السيادية المهيمنة على كل السلطات، يجعل شهية السلطة التنفيذية مفتوحة من أجل تحقيق فائض السلطة، وصرف هذا الفائض على شكل تشريعات وقرارات في اتجاه يخدمها هي ومن يدور في فلكها على حساب الوطن والمواطن… باستغلال غياب المراقبة والمساءلة…

ويأخذ أصحاب فائض السلطة ” مبرراتهم ” حسب ما تقتضيه الوضعية الاجتماعية والسياسية والأمنية، فتارة تحت مسمى محاربة الإرهاب، وتارة تحت ذريعة الحفاظ على الاستقرار والأمن، أو حماية الاقتصاد، وتارة بسبب ظهور حركات احتجاجية بمضمون اجتماعي، وتارة ” تقنين ” الحريات وحرية التعبير، وغير ذلك من الأنشطة ذات الطابع الحقوقي والنقابي … ووضع تشريعات تضيق على الحريات وتحمي بعض مظاهر الفساد وتساهم في الاغتناء غير الشرعي أو التمكين لاقتصاد الريع …

إن فائض السلطة أحد مظاهر الفساد السياسي، وأكبر معيق للتنمية بكل أشكالها وأبعادها، يحد من حرية الفرد والجماعة، وبالتالي يقف حائلا دون الابداع والابتكار والمبادرات الإيجابية. يمكن لاقتصاد الريع، وبالتالي يحد من المنافسة المشروعة ويقتل التنافسية الاقتصادية، ويلغي أي معنى لمفهوم الحكامة والشفافية، ويعدم مبدأ تكافؤ الفرص، وهذه كلها عمليات وأد التنمية والتقدم.

ملاحظة: ” فائض السلطة ” مفهوم جديد، لم أجد له استعمالا من قبل، أتمنى أن يعمق الباحثون والمتخصصون النقاش فيه والتوسع في مفهومه ومضمونه وأسبابه وتداعياته إغناء للنقاش السياسي.

(1) مقتطفات من مقال : السلطة للأستاذ حسن البحري

(2) يمكن الرجوع إلى مقالي : نظرية الدولة العميقة

 

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x