2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

نورالدين البكراوي
لعل من روائع ما قال المغفور له الملك الحسن الثاني حول العلاقات المغربية الإسبانية ما يلي: “الإسبان والمغاربة محكوم عليهم بالتفاهم والتعايش، بسبب إرث التاريخ وضغط الجغرافيا”.
لكن خوف الإسبان من المغرب يحول دون تطبيق ذلك، فهم يعرفون أكثر من غيرهم من الدول، أن الدولة المغربية التي تأسست كدولة موحدة ذات سلطة مركزية قبل إسبانيا بقرون، قادرة -بحكم ما تزخر به من إرث حضاري وثقافي عريقين-على استرجاع وضعها الطبيعي كدولة ذات سيادة على كل أراضيها بما فيها سبتة ومليلية والثغور.
فمنذ احتلال سبتة سنة 1415، و مليلية سنة 1497، وجزيرة باديس الغمارية سنة 1564، وصخرة الحسيمة أو جزيرة نكور سنة 1559، والجزر الجعفرية سنة 1848، وجزيرة ليلى (تورة) سنة 2002، والدولة المغربية لا تتوانى في محاولات استرجاعها بشتى الطرق سواء الحربية منها أو السلمية. وهي في سبيل ذلك لم تتوقف عن المطالبة بها في فترات الضعف أو في أوقات القوة.
هناك في التاريخ المغربي والإسباني أمثلة عديدة لن يسمح لنا الفضاء الضيق بذكرها كلها، تروى هنا أو هناك، تبقى أشهرها حصار مولاي إسماعيل لسبتة لما يزيد عن 30 سنة، وحصار محمد بن عبد الله لمليلية من سنة 1774 إلى سنة 1775.
إن من نافلة القول، إن الإسبان يعرفون أن استرجاع المغرب لسبتة ومليلية وبقية الثغور المحتلة ضرورة تاريخية، وهذه المطالبات لا تسقط بالتقادم. وخير دليل على هذا،الإلحاح في مطالبة إسبانيا لبريطانيا منذ 1704، باسترجاع جبل طارق تحت السيادة الإسبانية بدون شروط..
إن المملكة الإسبانية تعلم أن المغرب يترقب ما سيجري عن كثب في ملف استرجاع جبل طارق، فهو يعرف أن الإسقاط بالمماثلة سيحدث لا محالة على سبتة ومليلية والثغور المحتلة لعدة أسباب:
أولا، تعرف إسبانيا بأنها إذا ما استرجعت جبل طارق من بريطانيا، ستطالبها الدول العظمى بعودة سبتة ومليلية والثغور للمغرب في إطار الحفاظ على موازين القوى.
فالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والصين لابد لها من اعتماد مقاربة جيوستراتيجية تمنع بكل الأشكال الممكنة تحكم إسبانيا في ضفتي مضيق جبل طارق؛ أو بمعنى أدق، إسبانيا أصغر بكثير من أن يسمحوا لها بالسيطرة لوحدها على ضفتي أوروبا وإفريقيا.
لذلك يجب استحضار مقولة الحسن الثاني التي جاءت في جريدة الباييس بتاريخ 30/04/1980 ، أكد فيها على أن: ” إسبانيا تعمل لصالح المغرب عندما تطالب باسترجاع جبل طارق”.
إن هذه الاستراتيجية إلى جانب عامل النمو الديمغرافي، ورقتان حاسمتان في يد النظام المغربي في المستقبل كما شدد على ذلك آنخيل مانويل بايستيروس، الدبلوماسي الإسباني السابق، والأكاديمي صاحب المسار السياسي الحافل في كتابه: ” نزاعات السياسة الخارجية الإسبانية” وما يزال يتطرق إلى نفس الأفكار في عدة خرجات إعلامية.
ثانيا، سبتة ومليلية والثغور أراض إفريقية مغربية بحكم التاريخ والجغرافيا، والمغرب يطالب باسترجاعها بشكل قانوني منذ عقود في جميع الهيئات والمحافل الدولية، ولم تتوقف دبلوماسيته عن النضال من أجل قضيته العادلة منذ قرون.
ثالثا، الأسباب التي دفعت إسبانيا لاحتلال الجيوب السابقة الذكر، لم تعد لها حاجة اليوم؛ فلم يعد هناك وجود للخطر العثماني، ولا الجهاد البحري، وليس هناك أي احتمال لغزو مغربي لاسترجاع الأندلس من جديد، كما أن زمن الحملات الصليبية ونشر المسيحية بالسيف تنفيذا “لوصية ايزابيل الكاثوليكية”، أمر غير قابل للتنفيذ مرة أخرى، حيث ولى زمن كل ما ذكر سابقا.
رابعا، إن سبتة ومليلية والثغور تثقل كاهل الدولة الإسبانية، و المحافظة عليها يعجز ميزانيتها ويرهنها في دوامة من المشاكل لا حصر لها، إذ يمكن أن تتحول بموجبها مع قادم السنوات إلى مجرد قاعدتين عسكريتين لا حياة فيهما، خصوصا بعد السياسات التي من المتوقع جدا أن ينهجها المغرب على حدود المدينتين المحتلتين كغلق الحدود البرية، وإنشاء مناطق تجارية حرة، ومناطق ومشاريع سياحية، ضخمة، والاستثمار في البنى التحتية على الطراز العالمي كإنشاء ميناء الناظور وتوسيع مطار العروي ومد خطوط الطرامواي، مع منع الطيران الإسباني عن التحليق في الأجواء المغربية لكل من سبتة ومليلية.
خامسا، العلاقات المغربية الإسبانية ولضمان نجاحها، تستدعي إنهاء هذه الملفات العالقة والشروع في شراكات أمنية واقتصادية حقيقية من أجل مستقبل أفضل.
ما تطرقنا إليه سابقا، يعلمه الإسبان جيدا، وهناك في التاريخ من ترك شهاداته على ذلك، ففي يونيو 2014 نشر الأرشيف الوطني البريطاني وثائق سرية خاصة تظهر أن في ثمانينيات القرن الماضي، وبالضبط سنة 1983، رفض الملك الإسباني خوان كارلوس الأول في اجتماع سري مع سفير بريطانيا في إسبانيا آنذاك Sir richard parsons
، استرجاع جبل طارق واعتبر أن هذا الأمر سيدفع بالمغرب إلى استرجاع سبتة ومليلية.
في التاريخ الإسباني هناك مواقف عديدة لرجال دولة اسبان على أعلى مستوى طالبوا بإرجاع سبتة ومليلية والمناطق المحتلة إلى المغرب، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، ما ذكره ألفونسو دي لا سيرنا في كتابه: (جنوبي طريفة، في نسخته الإسبانية الأصلية، في الصفحة 298)موقف الجنرال ميغيل بريمو دي ريفيرا الحاكم الفعلي لإسبانيا بعد الانقلاب العسكري مابين1921 و1930، بمناسبة الانضمام إلى الأكاديمية الإسبانية الأمريكية في قادش سنة 1917، أنه “يجب استبدال سبتة بجبل طارق” وأردف قائلا: “المغرب ليس إسبانيا”.
هذا التصريح أثار جدلا كبيرا في إسبانيا، مما أدى إلى تجريده من منصبه واعفائه من مهامه، وحتى بعد انقلابه الشهير على الحكم، وتوليه السلطة في إسبانيا بقي مصرا على رأيه، وزاد اقتناعه بذلك بعد الخسائر الفادحة التي مني بها من طرف محمد عبد الكريم الخطابي في حرب الريف.
وهناك مثال آخر على وجود بعض العقلاء الإسباناللذين فكروا خارج الصندوق، وأنصفوا المطالب المغربية العادلة، تماما كما فعل خايميبينييس، الوجه المشرق للدبلوماسية الإسبانية في عهد فراكو، وفخرها خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي.
الكل يشهد على أن هذا الرجل مارس السياسة والديبلوماسية بكفاءة عالية مكنته من ترأس أقسام السياسة الخارجية الأمريكية والبريطانية في مدريد، وكذا عين سفيرا في عدة دول والأمم المتحدة ما يزيد عن نصف قرن. بل إنه طلب منه الاشتغال كسفير حتى بعد تقاعده.
كان هذا الرجل معروفا بحنكته ودهائه، وكان عارفا بخبايا الأمور لا يشق له غبار في قضايا تحتاج إلى عقلية خبيرة. نفس الرجل كتب رسالة بخط اليد وأرسلها سنة 1975، للحكومة الإسبانية يطلب منها ضرورة إعادة الصخور والجزر الصغيرة فورا إلى المغرب، وعودة سيادته على مليلية في غضون 20 سنة، مع الاحتفاظ بسبتة حتى استرجاع سيادة إسبانيا على جبل طارق .
وعلى نفس المنوال، ارتبطت مواقف الديبلوماسي الإسباني وأحد الأعضاء البارزين في الحزب الاشتراكي العمالي، ماكسيمو كاخال، بدعم مسألة مغربية سبتة ومليلية، وقد أثار ذلك زلزالا في أوساط السياسة الإسبانية والأكاديمية والمجتمع الاسباني سنة 2003، خاصة بعد إصدار كتابه: سبتة ومليلية وجبل طارق وأوليفينثا… أين تنتهي إسبانيا؟ الذي تسبب له في مشاكل لا نهاية لها.
حيث ورد في حوار له مع جريدة الباييس بتاريخ 19/03/2003، ردا على سؤال حول سياسة خوسي ماريا آثنار قال فيه: ” مغربية سبتة ومليلية لا يجب أن تكون محل شك؟”، وأردف: “من أجل الصحة العامة للإسبان، ومن أجل تعطيل كل ذاك الخليط من الخوف، وعدم الثقة والغيض التاريخي ضد المورو، على إسبانيا البدء بالتفكير العميق بمعية الرباط حول هذا الموضوع الشائك؛ بتفكير ينتهي بحلول مقبولة لدى البلدين، لكن دون المراوغة من الجانب الإسباني للحسم في مغربية المواقع (المحتلة) بشكل نهائي.”
ودعا من خلال كتابه الحكومة الإسبانية إلى وضع حد للاستعمار الذي طال أمده، وطالب بتسليم الثغور والجزر فورا، مع التعهد بتسليم مليلية في غضون 20 سنة، حتى تكتمل عملية الانتقال السلمي السلس للسيادة. أما سبتة أرادها أن تعود فور استعادة جبل طارق من المملكة المتحدة، كما أنه في حديث آخر يرى أن عودة سبتة ومليلية وباقي الثغور إلى السيادة المغربية من شأنه إعطاء اسبانيا سلطة أخلاقية للمطالبة بجبل طارق.
هذه الآراء لم تمر مرور الكرام على الحزب الشعبي الإسباني في ذلك الوقت، الذي أعلن حربا شعواء ضد ماكسيمو كاخال الذي واجه الجميع، وكان يسبح ضد التيار بسبب صراحته وشجاعته. آراءه لا تهادن ولا تصالح بشكل يدعوا للدهشة، وفي نفس الوقت، تجعلك منبهرا بأمانته وحسن قراءته للمشهد السياسي حين يصرح:” يجب استكمال الوحدة الترابية للمغرب”.
ولعل هذا يتجلى في موقفه من حادثة جزيرة تورة أو كما يسميها الإعلام المغربي جزيرة ليلى، التي هجم فيها الجيش الإسباني على بعض العناصر من الجيش والدرك الملكي المغربي، واحتل الموقع دون أي وجه حق، باسطا يده عليه. وقد علق ماكسيمو كاخال على هذه الأحداث بالقول: “إنه مثال للاحتلال والعجرفة، وسوء التفاوض في الإطار الصحيح”.
التاريخ لا ينسى والمغاربة كذلك، حقهم في استرجاع ما تم انتزاعه بالغصب في أوقات الضعف لا يسقط بالتقادم، ولا يصبح الاحتلال شرعيا بوضع اليد مهما طال الزمن.
ولنا فيما نروم إليه من معنى، في ما يتغنى ويتشدق به الإسبان بشكل فج، بما يحمله من تدليس وتلفيق ولا يرقى إلى حقيقة عظمة الوجود الإسلامي بالأندلس، في كتب التراث والتاريخ والأدب الإسبانية عن مقاومتهم “للعدو المسلم”، وطرده وتحرير وتوحيد أرضهم ودينهم في حروب الاسترداد في شبه الجزيرة الإيبيرية خير مثال: فهم حاربوا الوجود الإسلامي وملوك الطوائف والدول المغربية التي تعاقبت على الأندلس طيلة 780 سنة ابتدأت ب 711و انتهت ب 1492. فلم لا يتقبلون منا نحن المغاربة أن نطالب بأراضينا المحتلة منذ 1415؟!
إن كل السلالات الحاكمة التي مرت على دولة المغرب، خصوصا منذ أن سقطت الحصون والمدن الأولى من بينها سبتة ومليلية والجزر والصخور في يد المحتل البرتغالي والإسباني، كان أول شروط استلامها دفة الحكم وأول بنود قوانينها، من أجل أخد البيعة من العامة والخاصة والزوايا، هو تطبيق عدالة الاسلام واسترجاع المناطق المحتلة واستكمال الوحدة الترابية للإمبراطورية الشريفة. وعلى مدى قرون نجح المغرب في استرجاع الكثير منها، ولم يبق له إلا القليل لإعادة ملامح حدوده التاريخية والجغرافية الطبيعية.
حال إسبانيا مع سبتة ومليلية والثغور المغربية المحتلة من طرفها (إسبانيا)، كحال صاحب البيت الكبير (المغرب) والغريب الذي يحتل أجمل الشرفات وأكبر الأبواب من واجهته.
إن علاقات الأمم لن تنجح في تحقيق مبتغاها في التعاون المثمر والشراكة الرابحة الحقيقية، إلا إذا انطلقت من أرضية مستقلة وموحدة تضمن تدفقات اقتصاديةوأمنية وثقافيةتسري دون أي نوع من الانسداد، أو وجود جسم أجنبي أو ورم خبيث يعرقل عملها ويهدد حدودها. وهذا ما يجب على إسبانيا أن تأخذه بعين الاعتبار وهي ما تزال ترتكب نفس الخطأ (الاحتلال) على مدى قرون وتنتظر من المغاربة نتائج مختلفة.
باحث مغربي
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.
قراءة متأنيه للمشهد السياسي والتاريخي المغربي الإسباني وابرازك لاهم نقاط الخلاف بين الجارين