لماذا وإلى أين ؟

المغرب في خطاب الأحزاب اليمينية الإسبانية

نورالدين البكراوي*

لا شك أن التصريحات التي ألقاها السيد رئيس الحكومة المغربية سعد الدين العثماني في قناة الشرق يوم السبت 19/12/ 2020، والتي تحدث فيها عن نية المغرب استئناف المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية وبقية الثغور المحتلة في يوم ما، وما تلاه من رد فعل سريع ومباشر من الجانب الإسباني على يد نائبة رئيس الحكومة الإسبانية كارمن كالفو في مؤتمر صحفي من داخل قصر مونكلوا حسمت فيه بالقول: ” سبتة ومليلية مدينتان إسبانيتان وليس هناك موضوع للتحدث عنه”.

هذه التصريحات المتبادلة هنا وهناك، آخرها كان حوارا لوزيرة الدفاع الإسبانية مرغاريتا روبليس، مع الوكالة الإخبارية الإسبانية أوروبا بريس العريقة، يوم السبت 02\01\2021، أكدت فيه أن: “ليس هناك نقاش، سبتة ومليلية مدينتان اسبانيتان بدون أي أدنى شك، تماما كما هي عليه مدريد أو سيوداد ريال، أو أي مدينة إسبانية أخرى”.
حرب الميكروفونات هذه، أثارت موجة من الغضب في كل من إسبانيا والمغرب واستفزت الشعبين معا. وما يزال السجال محتدما وساخنا طيلة ثلاثة أسابيع في الصحافة الدولية لما يتمتع به الحدث من أهمية بالغة.

هذا النوع من التصريحات المثيرة للجدل يجب وضعها تحت مجهر تحليل الخطاب، فهو كما نستخلصه من الكتب التي اضطلعنا عليها للساني والأكاديمي الهولاندي تيون فان ديخ، والتي نذكر منها “النص والسياق” 1980، “تحليل الخطاب الاجتماعي والسياسي” 1999 “الخطاب والسلطة” 2008، الخطاب والسياق” 2012، يجعلنا نقول إنه التخصص الذي يمتلك المنهج القادر على قراءة ما تم التصريح به من طرف المشاركين في صناعة الخطاب الشفوي منه أو المكتوب، واقتفاء (بواسطته) أثر وأصل السياق الذي أنتج لنا هذا التصريح في هذا الوقت بالضبط، ومدى مرجعياتهم، وكذا الكشف عن خلفياتهم الإيديولوجية والثقافية وأصلهم وجنسهم وموقعهم السياسي وطبقاتهم السياسية…
فالخطاب كما عرفه ميشيل فوكو في كتابه “نظام الخطاب” في الصفحة 5:” ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة، لكنه هو ما نصارع من أجله، وما تصارع به، وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها”.

إن التوغل في حقل تحليل الخطاب وما له من علاقة عضوية بحقل اللسانيات التطبيقية وعلم السيمائيات وعلم التداول وعلم النفس الاجتماعي في هذه الحالة، مطلوب بشدة لفهم وتفسير وتأويل الدلالات المندسة فيما بين السطور، للضجة التي ما بعدها ضجة؛ حيث وصل الأمر لدرجة استدعاء وزارة الشؤون الخارجية الإسبانية في شخص كاتبة الدولة المكلفة بالشؤون الخارجية في إسبانيا كريستينا غاياش، لسفيرة المغرب السيدة كريمة بنيعيش، وأخبرتها “أن الحكومة الإسبانية تتوقع من جميع شركائها احترام سيادة ووحدة أراضي إسبانيا”.

إن حالة الغليان هذه في الجارة الشمالية لم تقف عند هذا الحد، بل تعدتها إلى مطالبة الحكومة الاسبانية من طرف عدة جهات أهمها حزب فوكس والحزب الشعبي ذاتا التوجه اليميني، إلى قطع العلاقات مع المغرب فورا، مستنكرة ومتسائلة في الوقت نفسه، كيف تسمح إسبانيا للمغرب بتصريح كهذا؟ ومن أين له الجرأة في المطالبة بانتزاع سبتة ومليلية من الدولة الاسبانية؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي منا البحث فيما يجري وراء الستار في المشهد السياسي الإسباني المضطرب بشكل عام، وفي سبتة ومليلية بشكل خاص، والمتمثل في الصراع الظاهر والحرب المعلنة التي لا هوادة فيها بين الحكومة الإسبانية ذات التوجه اليساري متمثلة بالحزب الاشتراكي العمالي اليساري وحزب بوديموس، والمعارضة ذات التوجه اليميني بقيادة الحزب الشعبي الذي بالمناسبة، هو من يحكم في مدينة سبتة عن طريق خوان خيسوس فيفاس، وحزب سيودادانوس (مواطنون)، الذي يترأس مدينة مليلية بقيادة إدواردو دي كاسترو غونزاليس. وهناك في أقصى حدود المعارضة حزب فوكس الأكثر تطرفا في أحزاب اليمين والمتحالف مع سيودادانوس في سبتة المحتلة.

فالتيار اليميني وخصوصا حزب فوكس الذي أسسه متطرفون من الحزب الشعبي بقيادة سانتياغو أباسكال في 17\12 من سنة 2013، منذ أن تشكلت حكومة اليسار في إسبانيا، وهو لا ينفك يغدقها باتهامات لا نهاية لها وينعتها بالضعف والهوان، كما هو الحال في قضية ترسيم الحدود البحرية المغربية، ويصفها بعدم الكفاءة في مواجهة جائحة الكورونا والتدابير المتخذة إلى حدود الساعة فيما يخص التلقيح ضد فيروس كوفيد 19. ناهجا سياسة هجومية في ملف الهجرة والحراك السياسي في جزر الكناري.
في السياق ذاته، لا يترك فرصة إلا ويوجه أصابع الاتهام لحكومة بيدور ساشيز بأنها تلطخ شرف إسبانيا، خصوصا بعدما علمت من وسائل الإعلام باعتراف أمريكا بمغربية الصحراء، وما جرى قبلها بفرض حصار خانق على كل من سبتة ومليلية، دون أن تحرك ساكنا.

هكذا ظل حزب فوكس محافظا على فلسفة وأيديلوجية الأحزاب اليمينية الراديكالية ذات النسق المنسجم المبني على خطاب يقوي الكره والعداء نحو المغرب والأجانب خصوصا المسلمين، وهو في هذا الطرح يغذي الشعور بالإسلاموفوبيا المبكرة بين صفوف الإسبان، ويقوم بإحياء الثقافة الإسبانية العنصرية القائمة على التطهير العرقي خلال عصر حروب الاسترداد.

لعل المتتبع لخطاب حزب فوكس الإسباني، يجد رسائله حاضنة لتصورات وأفكار وصور نمطية معادية للمصالح الوطنية المغربية، ورفض للأقليات، وهي بهذا المعنى تنبذ بشكل عام فكرة التعددية الثقافية. كما أن من ديدن هذا الحزب الدفاع الدائم عن الهوية الإثنو–وطنية الإسبانية الخالصة، والتحمس الشديد للذود عن التقاليد القومية التاريخية.

وهناك ايضا من سماته البارزة الدعوة الصريحة للحد من الهجرة، بحيث أن هذا المطلب هو ورقته الرابحة والقاعدة المشتركة لأي برنامج سياسي لهذا الحزب اليميني المتطرف؛ هذا التيار الراديكالي يرى في المهاجرين تهديدا للهوية الإثنو–وطنية، وسببا مباشرا في بطالة المواطنين الأصليين، ومصدرا لكل الشرور والجرائم، وغيرها من مظاهر غياب الأمن الاجتماعي. كما أنه يصورهم على أنهم (أي المهاجرين) يستغلون بدون حق ما توفره دولة الرفاه.

وبالعودة إلى تصريحات العثماني رئيس الحكومة المغربي، القاضية باسترجاع سبتة ومليلية وبقية الثغور المحتلة، كانت بالفعل فرصة ذهبية بالنسبة إلى حزب فوكس، الذي ركب عليها لاستكمال مسلسل الهجوم على المغرب، والتذكير بالحدود الذهنية لعوامل فكرية القائمة على الثنائيات الجدلية المركبة -القديمة، الجديدة-: مسلم/مسيحي، إسباني/مورو، الأنا/الآخر…

وفي ظل هذا المدار، جدير بالإشارة إلى أنه قد تم مؤخرا فقط، تناول موضوع المغرب بشكل مبالغ فيه في الإعلام المحسوب على التيارات السياسية اليمينية الإسبانية. ذلك أن مختلف المنابر الإعلامية التي تتبع خطا تحريريا مناوئا للمغرب، يصورونه اليوم في منابرهم الإعلامية و منصات التواصل الاجتماعي كبلد قوي لا يقيم وزنا لحكومة إسبانيا الحالية. ويستقرئون من حركاته وشخصيته أنه يشم رائحة الخوف في أعضاء حكومة بيدرو سانشبز؛ الشيء الذي يشجعه على التوسع على حساب إسبانيا، لتنطلق الأحزاب اليمينية الإسبانية بعد ذلك، في سرد أمثلة كثيرة على انتصارات المغرب، كترسيم حدوده البحرية بشكل أحادي، وكيف أنه انتزع من جزر الكناري جبل طروبيك الذي يقدر الخبراء احتواءه على أكبر احتياطي عالمي من معدن التيلوريوم، المستعمل في صناعة الألواح الشمسية والإلكترونيات شديدة الدقة، واشتماله كذلك على مخزون كبير من معدن الكوبالت المستخدم في صناعة السيارات والصناعات العسكرية. ثم يذكرون بحصاره لسبتة ومليلية ومدى الضرر الذي تعرفه المدينتان منذ أزيد من سنة. كما أنهم في كل فرصة يحذرون من الخطط والبرامج التسليحية المغربية المتطورة، الطامحة لصناعتها محليا، مستحضرين أرقاما مهولة عن الميزانيات الضخمة التي تضخ في هذا المجال من طرف الدول الحليفة والصديقة الداعمة للمغرب، مثل الدول الخليجية والولايات المتحدة وفرنسا وآخر الملتحقين بشكل علني اسرائيل. ويقارنونها بمثيلتها الإسبانية ويتساءلون عن موعد هجوم المغرب على إسبانيا؟!

وبالموازاة مع ما ذكر سابقا، يستعرضون المزيد من الحجج على أن المغاربة المقيمين في إسبانيا جواسيس وقنابل موقوتة يجب التخلص منهم، وأن إسبانيا مهددة بتحولها للإسلام، وأن المغرب يشكل تهديدا يجب التعامل معه بحزم وقوة، باعتباره يحارب إسبانيا بالمهاجرين غير الشرعيين والحكومة الإسبانية الخائنة تدعمه في المقابل وتساعده على النمو والتطور.

لقد سمحت تصريحات سعد الدين العثماني لأحزاب اليمين وأعضائها بحركة هجومية احتجاجية شرسة، هدفها الأساس تسجيل مواقف تدعي الوطنية المخلصة، والتعبئة المستمرة في صفوف أنصارها، من أجل تسويق خطاب تحريضي هدفه تلطيخ صورة المغرب والمغاربة وتصويره كبلد عدو لدى الإسبان، وهو في حقيقة الأمر مجرد تشويش إعلامي، يتغيا التأثير في عقلية المواطن الإسباني البسيط المشبع بوهم إحياء أمجاد التاريخ التليد، والمؤمن بأفكار “الإستفراق” أو “الأفريقانية الإسبانية” الإستعمارية التي تعود إلى القرن 19.

إن ما ذكر سابقا هو ما يجعل هذا الصنف من التيارات السياسية، يعرف باسم “اليمين الشعبوي المتطرف”.
أما ما جاء به رئيس الحكومة المغربية في خرجته الإعلامية، هو تماما ما تبحث عنه أحزاب من طينة حزب فوكس الاسباني المتعصب من أجل المزايدة وتصفية الحسابات، فهي من القضــايا المهمــة التي يمكن أن ترفع من شــعبويتها، تماما كما فعلت إلى يومنا هذا مع تورط بابلو إغليسياس زعيم حزب بوديموس في فضيحة قضية مساعدته الطنجاوية السابقة دينا بوسلهام، التي تشغل حاليا منصب مديرة الموقع الإلكتروني الإخباري (آخر ساعة Última hora).

وما ترتب عنه من تأثير بعد طرد خوسي مانويل كالفينطي رئيس مصلحة الشؤون القانونية بعد اتهامه مؤخرا بتسريب الأخبار والمعلومات في قضية دينا، إضافة إلى تهم التحرش والاعتداء على زميلته كارتا فلور نونييز التي تمت تبرئته فيها، وما صاحب ذلك من أقوال تفيد بأن التهمة لفقت له (كالفينطي) بعد اكتشافه فسادا وتلاعبات في حزب بوديموس.

هذا النوع من القضايا يشوه سمعة الحكومة ويضمن لأحزاب اليمين الانتشـار علـى نطـاق واسـع. وبهذا تكون قد حققت غرضـها في استقطاب مختلـف الفئـات الاجتماعيـة والمهنيـة، وكـذلك الوصول إلى مختلـف الفئـات العمريـة والنـاخبين جميعـا، على مختلف انتماءاتهم وأطيافهم السياسية.

وبناء على ما سبق، نفهم أن سبب استدعاء سفيرة المغرب ومعه التصريح الأخير لوزيرة الدفاع لم يكونا إجراءين عدائيين بقدر ما كانا امتصاصا للغضب الشعبي، الذي أحدثته تصريحات السياسيين والإعلاميين المتعصبين للأحزاب والتيارات اليمينية. كما يمكن اعتباره رشة ماء لإخماد النار التي أشعلها أعضاء الحزب الشعبي وحزب فوكس.
فكل ما سمعناه وشاهدناه، وشجبناه أيضا، من بلاغات وحوارات من طرف الحكومة اليسارية الإسبانية، بعد تصريحات العثماني، وما خلفته من مماراة حادة، كانت في نظرنا شيئا ضروريا، جار به العمل. أولا، كنوع من المسكنات للناخب الإسباني، وثانيا، استعملت كآلية دفاعية للاستهلاك الإعلامي هدفها الرئيسي تصريف الأزمة، والنفي بواسطتها صفة الضعف مع التفنيد من خلالها التهمة ذاتها التي لم يزالوا ينعون بها من قبل اليمينيين.

بينما ما يخص المطالبة باسترجاع سبتة ومليلية والثغور المحتلة، فهي ليست جديدة، ولا ترتبط باعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء أو التطبيع مع إسرائيل.
فالمغرب لم يتوقف قط عن الضغط في المطالبة بها سواء قبل الاستقلال أو وبعده؛ ولنا في الزيارة التي قام بها ملك إسبانيا خوان كارلوس (وكانت أول وآخر زيارة له للمدينتين منذ 32 سنة من حكمه) في أكتوبر ونونبر من سنة 2007 لسبتة ومليلية، وما رافقها من غضب شعبي وبلاغ رافض لها، صادر من الديوان الملكي، ورسائل شديدة اللهجة من ووزارة الخارجية لحكومة عباس الفاسي للسفير الإسباني. الكل في المغرب وبطريقته الخاصة، استنكر هذا الفعل المشين الذي يمس المشاعر الوطنية للمغاربة، دون نسيان الوقفة الاحتجاجية التاريخية أمام القنصلية الإسبانية في تطوان والشعار المرفوع ” إسبانيا دولة احتلال”، أكبر دليل على ارتباط المغرب بأراضيه المحتلة ودفاعه المستميت عليها، ونضاله المستمر من أجل استرجاعها. وهذا ما جعل ملك إسبانيا الحالي فيليبي السادس يفكر ألف مرة قبل أن تطأ قدماه المدينتين والثغور المحتلة إلى يومنا هذا. فمكانة هذه المدن في قلوب ووجدان المغاربة لا تحتاج إلى اختبار في الوطنية.

إن مشروع المغرب الكبير الذي عمل عليه علال الفاسي بعد تقديم وثيقة الاستقلال في أربعينيات القرن الماضي وقدمها بتاريخ 07/07/1956، ورفعها بعدئذ المغرب إلى الأمم المتحدة في 15\10\1956، والقاضي باستقلال المغرب ضمن حدوده الطبيعية المعروفة منذ الدولة السعدية، بما فيها سبتة ومليلية والثغور والصحراء الشرقية المغربية التي خسرنا فيها مناطق مهمة كتندوف وكولومب بشار وحاسي البيضاء أمام الجزائر بدون أي وجه حق وموريتانيا، مازال يطرح باستثناء المناطق المذكورة الأخيرة، في كل المحافل والهيئات والمنتديات الدولية، وهو حاضر في جميع الخطابات الرسمية لملوك المغرب ودائم التواجد في الإعلام المغربي والنقاش الشعبي.

ختاما لهذا الموضوع، نرى أن تصريحات العثماني الأخيرة، تعكس في الواقع، إرادة الدولة والشعب على السواء، في استكمال الوحدة الترابية المغربية التي لا ولن تسقط بالتقادم أو بوضع اليد، ولن تنفع معها الخطابات الملغمة بالعداء والعنصرية للأحزاب اليمينية الإسبانية المتطرفة؛ بل ستظل قائمة حتى يتحقق هذا المطلب الوطني العادل.

*باحث مغربي

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
Karim
المعلق(ة)
16 يناير 2021 18:58

L analyse est profonde par rapport au conflit marocain espagnol

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x