لماذا وإلى أين ؟

التطرف كأزمة تداولية

يبدو أنّنا لسنا غير أوفياء لباطن المعنى، ذلك الذي يفوق إمكانية اللغة في سياق ما أو فعل ما فحسب بل إنّ الإسفاف قد يجعلنا غير أوفياء حتى للظاهر الذي ترنّحت حوله السلفيات، وذلك لأنّ بناء استراتيجيا خاطئة عن المعنى يوشك أن يربك مستقبل المعنى نفسه حينما يصبح باطن المعنى ظاهرا في سياق متوقع نظرا لصيرورة الفعل التداولي. وأعتقد أنّه آن الأوان لكي ننظر في علاقة السلفيات بالمعنى العام للعبارة بظواهر اللغة وما توفّره العنايات والعوائد في بيئة لغوية تتشارك ذات الخبرات وتنجز علاقة ما بين الكلمات والأشياء تمنحها ما يمكن أن نسميه الوحدة الاجتماعية التداولية.

شغل الظاهر -ظاهر المعنى – الذهنية السلفية وبه قارعت سائر مخالفيها ممن كانوا يؤمنون بالمجازات والمعاني الممكنة التي ينطوي عليها باطن الصيغ اللغوية وأيضا أفعال الكلام. كان الاهتمام بالظاهر وقمع المعنى المحتمل مثيرا في زمن تجاوزت فيه الباطنيات ما يمن أن نعبّر عنه بالمنفعة الحدّية. وكان ذلك في حدّ ذاته له سياقاته التاريخية والسوسيو-لسانية، أي الاستهتار بالظاهر واعتباره مجرّد دارقة لمعاني أكثر جدّية وتحققا من الظاهر بوصفه في نظرهم مجرد خداع لغوي.

استنزف الباطنية فكرة الباطن حدّ الغلو، واستنفذ الظاهرية اليوم الظاهر حدّ الغلو وآن الأوان للقبض على وسطية المعنى الذي نقصد به المعنى المنبثق من خبرة الجدل المتواصل بين الظاهر والباطن. في مقاربتنا التأويلية للمعنى لا نرى فكاكا بين باطن المعنى وظاهره، بل نتحدث هنا عن تموضع وظيفي للمعنى بحسب السياق. فالظاهر هو العمل والباطن هو العلم. حين يحبل النص بمعاني ممكنة فهذا ما يمنح الفكر فرصة للانبثاق المستمر، بينما لا بدّ من الظاهر.

في فكر وسلوك السلفيات المعاصرة بما فيها السلفيات المخاتلة التي تستعمل المعجم اللغوي والفلسفي العقلاني لتبرير جودة خطابها التبسيطي للغة والأشياء، نقف على حالة قتل النص والمعنى، أي جعل النص ينطق مرّة واحدة في التّاريخ دون الحاجة إلى انبثاق المعاني المتجددة على الرغم من التحولات الظاهرة والخفية للأسيقة التاريخية. حينما بلغ المعنى الظاهر والوحيد الباب المسدود انتفضت السّلفيات، وهو ما أسميه بمآل الوعي الشقي للسلفيات إزاء المعنى والذي أثمر في الواقع كل أشكال العنف المادي والرمزي. إنّ عدو السلفيات هو المعنى المتجدد. وحتى حينما تتبنّى السلفيات مفردات نظير التجديد والاعتدال والوسطية وما شابه ذلك، فهي لا تفعل أكثر من تحصين نفسها من الاندثار والانتقاذ، لأنّ لا معنى يستغني عن السياق ولا لغة تستغني عن الأفعال ولا عقل يستغني عن جدل الظاهر والباطن.

وعلى هذا الأساس، نعتبر أنّ المشكلة مع التّطرف تفوق الإجراءات الأمنية التي عادة ما تنهجها الدّول إزاء أي حدث متطرف، بل هي مشكلة تتعلّق بالعلاقة مع اللغة ومع المعنى، أي هي حالة ارتباك في الموقف من المعنى واختزاله في ظاهر اللغة بناء على ارتباك سوسيو -لساني ينتج عنه موقف مخادع يميز جماعة تداولية صغرى داخل جماعة تداولية كبرى وهي المجتمع.

ولقد ذكرنا منذ ما يقرب عقدين أنّ الجماعة المسلمة لا زالت تدفع ثمن أزمة تاريخية قوامها العجز عن الخروج من زمن التنزيل إلى زمن التأويل، وشرحنا في محلّه هذا المأزم. لكن ملخّصه أنّ الأزمة اليوم تتعلق بإحلال أسباب النزول محلّ أسباب التأويل. أي لا زال التأويل ينظر إليه كنافلة وليس حتمية بها يستمر المعنى، وبأنّ النص مجدد الإنزال على العقول التي تتدبر معانيه الممكنة، وبأنّ لكل تأويل أوْل ومآل، وأسباب نزول وسياقات. وأنّ التأويل له أصول مقرّرة تغاضى عنها المسلمون ولم يلتفتوا إليها تحت وقع وسكرالظاهرة والتنزيل. وهكذا بات التنزيل مقدّسا والتأويل مدنّسا إلاّ بدليل. في حين أن تكليف الأمة ما بعد التنزيل هو التأويل. ومن هنا وجب أن نبدأ: من التأويل.

تبدو الحالة اليوم رهينة هذا الوضع التداولي الذي يجعل الحرب ضدّ التطرف هي حرب علامات وكلمات لا تعبّر بالضرورة عن أشياء جديدة بقدر ما تسعى لتحريف أشياء موجودة ليستمر المعنى بعد أن استنفذ أغراضه. وأمام الإصرار على المعاني البالية والإلتفات غير السّوي إلى الوراء هروبا من الحاضر والمستبقل يحتدم الصراع ويخرج الوعي الشّقي من حالة العنف الرمزي إلى حالة العنف المادّي. وهنا يبدو التطرف ليس فعلا فحسب بل أيضا كلمات. وهذه الكلمات تفعل فعلها السحري في بيئة التّخلف الثقافي أو الاقتصادي أو السياسي، وانتشار الفهم السلفي للدّين وتبسيط الحقائق السوسيو-دينية واختزال المشكلات التي تتعلق بالفهم الدّيني في تدوير مصطلحات بلا خبرة، وفي حالة انتهازية الفاعل في الحقل الديني.

نحن نعيش أزمة حقيقية ولا نفعل حتى الآن سوى الإلتفاف عليها من دون مخرجات يتيحها عمق التنظير والبدائل المطروحة على مستوى التأويل..

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x