2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

عادل بن حمزة
تناول العديد من الكتّاب هذا الموضوع عبر العصور، وحاولت الأنتربولوجيا السياسية أن تقدّم صوراً عن العلاقة ما بين الدين والسياسة منذ فجر التاريخ ومنذ ظهور المعتقدات الدينية الأولى أو المراحل البدائية للفكر الديني، غير أنه كثيراً ما طغت الخلفية الأيديولوجية والسياسية على حساب الجانب الأبيستملوجي في دراسة هذه الظاهرة. إن مسألة الترابط ما بين الدين والسلطة هي واقعة تاريخية عرفتها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي ناتج سيرورة العلاقات الاجتماعية وعلاقات الإنتاج، فسمير أمين مثلاً يرى أن الأديان – كظواهر اجتماعية تاريخية – تتمتع بدرجة عليا من المعرفة تتيح تكيفاً وفقاً لتطور العلاقات الاجتماعية، وقد أثبتت جميع الأديان هذه المرونة.
من الناحية المنهجية، تصعب إقامة فصل تام ما بين الدين والسياسة أو القول بنفي الأول للثاني أو العكس، إذ إن العلاقة بينهما تراوحت ما بين هيمنة الدين على السياسة وكبح طموحاتها والحد من جبروتها، وبين استعمال السياسة الدين لتقوية النفوذ وإحكام السيطرة، لقد كان ماركس يقول إن سلطة الدين والدولة هما في جوهرهما من طبيعة مشابهة، حتى عندما انفصلت الدولة عن الكنيسة وحاربتها. يقوم هذا التشابه الجوهري في الواقع على أساس وقوع الدولة (أو يبدو أنها تقع) على مستوى أعلى من الحياة الواقعية في دائرة يوحي بُعدها ببعد الإله أو الآلهة. إننا عند الحديث عن علاقة الدين بالسلطة في مجتمع ما، فإننا نتحدث بالضرورة عن النسبة التي يشغلها الدين داخل النظام السياسي، فحسب جورج بالانديه، تنم وحدة رموز السلطة والمقدس عن الصلة التي قامت بينهما دائماً، والتي وسعها التاريخ ولم يقطعها أبداً.
يرجع البعض مسؤولية التعثر الديموقراطي في العالم العربي، إلى تأثيرات ونتائج توظيف الدين في السياسة، سواء من قبل الأنظمة أو باقي الفاعلين السياسيين، وإن كنا نتفق على أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يحضر فيها التوظيف الديني في تفسير أو تبرير بعض الاختيارات والمواقع والقرارات، فإننا نجد أنفسنا أمام سؤال عن سبب التأخر الديموقراطي مثلاً في أفريقيا جنوب الصحراء، وجزء من آسيا وعدد من دول أميركا الجنوبية التي تنتقل أنظمتها بين بنية سلطوية وأخرى هجينة، هذا من دون إغفال مجموعة بلدان المنظومة الاشتراكية السابقة التي ما زالت تأثيرات المرحلة السوفياتية تؤثر في نخبها، لذلك يمكن القول إن طرح مسؤولية الدين، برغم الاتفاق الكامل على أن نتائج توظيفه في السياسة مدمرة، ومحاولة تبرير أو تفسير أن الوضع القائم في المنطقة العربية يمكن اختزاله في الحضور الانتقائي للدين، إنما هو طرح متهافت وغير علمي وغير موضوعي، فحتى الدول التي قطعت أشواطاً في الديموقراطية، لم تقطع بصفة نهائية مع موروثها الديني على مستوى البنية الذهنية والثقافية.
يكفي أن نتأمل ما يجري في الولايات المتحدة منذ عقود مثلاً، وقد ظهر بارزاً في ولاية دونالد ترامب، فالدين ما زال يلعب دوراً هاماً حتى في المجتمعات الغربية، إذ لا يمكن إنكار تداخل المقدس والسياسي (فحتى داخل) المجتمعات الحديثة المعلمنة لم تكن السلطة فيها أبداً خالية من محتواها الديني الذي يبقى حاضراً مختصراً، ومكتوماً بحسب بالانديه، بل إن الدول التي تبنّت خيار الإقصاء النهائي للدين من مجتمعاتها (الاتحاد السوفياتي سابقاً كمثال) لم تستطع أن تتخلص من منطق الدين، إذ عوّضت الأنبياء ببعض المفكرين، والكتب المقدسة بأدبياتها الأيديولوجية وخلقت تابوهاتها أيضاً، بل إن الولايات المتحدة واليابان والعالم العربي والإسلامي تشهد جميعاً انبعاث أصوليات جديدة بخطاب ديني يتراوح ما بين التطرف والاعتدال، هذا الواقع يستلزم مجهوداً علمياً للبحث عن الأسباب الموضوعية لظهور هذه الأصوليات بمضامين متقاربة في الجوهر، برغم اختلاف طرق التعبير والخلفية التاريخية والحضارية في بلدان متناقضة في بنائها الاجتماعي وعلاقات الإنتاج ودرجة النمو والحضارة والديموقراطية، يحدث ذلك بتزامن مع تصاعد نسق جديد من العولمة.
تنامي قوة الخطاب الديني في الغرب هو الذي دفع أحد الأكاديميين الفرنسيين المعاصرين للقول: “عندما كنا بالأمس نريد أن نثير إعجاب الطلاب، كنا نحدثهم عن السياسة، ولما كنا نريد أن نثير سخريتهم نحدثهم عن الدين، أما اليوم فإذا كنت تريد أن تثير انتباههم فعليك أن تحدّثهم عن الدين، وإذا كنت راغباً في إثارة سخريتهم فحدثهم عن السياسة”.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.