لماذا وإلى أين ؟

باهي.. صحافي حول المقالة إلى مصدر تأريخي

حمل اسمه المعروف به خطأ، واختار مساره ووطنه بكل وعي ويقين. هو ذاك البدوي القادم من أعماق الفيافي لينشد الوحدة بين الشعوب، فيسجل إسمه بخانة “رواد الإصلاح في المغرب خلال القرن العشرين”.

جمع كنزا معرفيا وأبان عن نبوغ فكري في “الخيمة يا سادة”، وفيها حفظ القرآن دون بلوغ سن السابعة، وقبل بلوغ ربيعه الثاني عشر كان يحفظ عن ظهر قلب دواوين الشعر الجاهلي والأموي والعباسي وكُتب النحو والمنطق والفلك وعلوم أخرى، قبل ان يصبح أشهر من نار على علم لدى السياسيين والمفكرين والأدباء والروائيين، هو أحد رجالات جيش التحرير الذي كان سببا في منفاه الاختياري الباريسي.

هو الصحافي المؤرخ والأديب المناضل باه محمد حرمة أنينه، المعروف بمحمد باهي حرمة.

صرخة البداية
أطلق محمد باهي حرمة صرخته الأولي في الحياة سنة 1930، بمنطقة “تنبيعلي”، بالجنوب من بلاد شنقيط بموريتانيا، التي تعتبر مركزا لقبيلة “إدوعلي”، نسبة إلى جدهم الأكبر علي بن أبي طالب، وهي قبيلة تشتهر بكثرة علمائها وأدباءها وشعرائها.

كان والده فقيها تقيّ ورعا حافظا لكتاب الله، وهو محمد حرمة بن محمد أنينه، شقيق السيدة مريم بنت أنينة، والدة الزعيم الصحراوي المعروف حرمة ولد بابانا، ووالدته هي زينب بنت محمد ولد عثمان لَكْنِيز.

شاءت الأقدار أن يفقد الصبي باهي، والده في عاصفة رملية بالصحراء، ولم يكتمل الحول حتى التحقت والدته بأبيه في عالم الأموات، فتكفل الزعيم الصحراوي حرمة ولد بابانا برعايته، وتولت الإشراف على تربيته شقيقة هذا الزعيم.

أبان باهي الطفل عن نبوغ متفرد، حفظ القرآن في سن مبكر، وواصل تعليمه العالي داخل الخيمة، أو ما يعرف بـ”المْحَظرة”، تعلم اللغة الفرنسة وأصبح متقنا لها، دون أن ينتسب يوما إلى المدرسة الاستعمارية.

ورث باهي النضال عن أجداده الاولين، وكانت أولى معاركه تلك التي خاضها ضد الطبيعة القاسية التي رأى النور فيها، وبعدها معركة الطيران بدون جناحين عندما فقد الأبوين، فكانت تلك هي النقمة التي في طيتها نعمة، إذ كان يتمه سبب في ترعرعه داخل خيمة “آل بابانا” حيت أصبح “عبقرية فذة الخصال وصدق النضال والقلم السيال”، وسار “رجلا يزرع الفكر بحبره، ويطفئ الحرائق بماء عرقه، إنه رجل خلق ليهب حياته لمسيرة البشر المثلى، مسيرة الحبر والعرق، كما يصفه الشيخ المختار ولد حرمة ولد بابانا ابن عمة الراحل باهي.

تعلم باهي ألف باء السياسة في ترحاله إلى جانب خاله، المرحوم حرمة ولد بابا، مؤسس حزب الوفاق الموريتاني بعدما نال منصب نائب بالبرلمان الفرنسي. وذلك قبل أن تدفعه (باهي) ضغوط ومضايقات السلطات الاستعمارية إلى خوض مغامرة الرحيل على الشمال، فكان أول “حَرَّاكْ” يقصد المغرب من دولة جنوب الصحراء على مثن مركب صيد من نواذيبو إلى الطرفاية، ودفع مقابل ذلك أعمال خدمة لطاقم المركب طوال الرحلة، حتى لا يرمى فالبحر وجبة للسمك.

باهي الصحافي؛ هازم الجابري و السحيمي
كان لباهي وهو يافع نظرة نحو الأفق، ومؤمن حد الثمالة بالوحدة ونبد التجزئة بي الشعوب، وتقسيم الأوطان، الشي الذي كان يؤدي إلى التشرد وتفتيت القوى ومنه إلى الضعف والهزالة، ما دفعه إلى اختيار المغرب وطنا له، وجيش التحرير الذي التحق به من بوابة كلميم وسيلته لتحقيق التغيير المنشود، قبل أن يضع البندقية ويتخذ القلم سلاحا.

كان أول امتحان يجتازه الباهي هو ذك الاختبار الذي نظمته جريدة “العلم” لسان حال حزب الاستقلال، وتفوق فيه على المرحومان محمد عابد الجابري، الذي سيصير فيما بعد مفكرا إسمه أشهر من نار على علم، وعبد الجبار السحيمي، الصحافي والأديب الطبيب الذي تركة بصمة واضحة في المشهد الإعلامي المغربي.

“كان اجتيازه لهذا الامتحان مجرد تمرين فكري”، يقول وزير الإعلام في عهد أول وأخر حكومة تناوب في المغرب، الراحل العربي المساري، في مقتطف من شهادة ألقاها في تأبين الباهي سنة 1996، ويضيف “عندما علم زعيم التحرير علال الفاسي بذلك الامتحان اعتبره مجرد مزحة من الأخ باهي”، فهو (باهي) “كان مثلا للصحافي الموسوعة المتشبع بثرات بلاده والمطلع على كل ما يستجد من المعارف والمعلومات..، اجتاز هذا الاختبار وهو الذي كان بوسعه أن يقترح أو يطلب ما يشاء من المناصب”.

ولكونه يهوى الصعاب والمغامرة اختار الانضمام إلى الجامعات المستقلة التي أنشأها الزعيم الوطني المهدي ابن بركة اتر الانشقاق عن حزب الاستقلال، قبل أن تصير الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي تحور إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فيما بعد، فالتحق الباهي بفريق شكله عبد الرحمان اليوسفي لإصدار “التحرير” كأول جريدة ستكون لسان الحال التنظيم الجديد.

يقول اليوسفي عن باهي الصحافي “ارتبطت بالأخ باهي صديقا حميما منذ أن قدمه لنا في جريدة العلم أستاذنا الزعيم علال الفاسي، الخبير بالمعادن النفيسة الصافية للرجال..، كان لا يتعب من المحاورة ولا من العمل، رغم أنني كنت يومذاك فأر كتب إلا أن الكتب كانت نعمة باهي وسَبْقَهُ الذي لا يجاريه فيه أحد، وكان كل ما يكسبه في الشهر يرصده لشراء الكتب المكتوبة بالعربية والفرنسية، كان إنسانا لا يبدل إلا ثيابه، فهو مقيم على أصفى القيم والمبادئ، وهو قارئ استراتيجي للتحولات، لذلك كان صحافيا من طراز ناذر”.

باهي اللينيني المتمرد على هدية بومدين ليكون رئيسا وهميا
دخل باهي الجزائر في مهمة صحفية تمثلت في تغطيته لعملية دخول جيش التحرير الجزائري بقيادة كل من أحمد بن بلة والهواري بومدين، إلى العاصمة الجزائرية عبر الحدود الشرقية المغربية سنتة 1962، وكان من المفروض أن يعود لمقر الجريدة بعد انتهاء التغطية، لكنه عاد إلى المغرب بعد مرور 20 عاما، من منفاه الباريسي الاختياري، عندما أصدر الراحل الحسن الثاني عفوا جزئيا على مجموعة من المعتقلين السياسيين وبعض المحكومين غيابيا.

صادف مقامه في الجزائر رغبة الهواري بومدين في زعزعة استقرار المغرب بأي شكل من الأشكال، فكان بروز حركة طلبة خرجوا لينادوا باستقلال الصحراء فرصته الذهبية التي عمل على استثمارها، مشبه ذلك بالحصة التي سيضعها في حداء المغرب، احتضن الحركة وجهزها بالمال والعتاد، وتوهم أنه قادر على جعلها جمهورية، ليبدأ البحث عمن يترأسها، فما كان له خيار أفضل من باهي، ذو الأصول الصحراوية والمعارض لحكم الحسن الثاني، الهارب من محكوميته، إلا أن باهي كان له جوابا أخر.
في هذه الواقعة يقول رفيق درب باهي، محمد بن يحي، المناضل الاتحادي، ” لما بدأت فكرة البوليزاريو ، اقترح الهواري بومدين شخصيا على باهي ترأسها، فقال له باهي سأخذ مهلة وأجيبك، و من باريس بعث مقالته الشهيرة على “المحرر” بعنوان “لا تجعلوا لينين موظف لدى فرانكو”.

ويقول رئيس القسم العربي بإذاعة فرنسا الدولية، سابقا، الصحافي السلامي حسني، “كان بومدين يهيئ لولادة جبهة البوليساريو وجمهورية الصحراء ومن خلالها فتح ملف الخلافات والثأر مع العرش المغربي، وراح قاصي مرباح مسؤول الأمن العسكري الجزائري يبحث عن رجل من الصحراء يشارك بومدين نقمته على العرش المغربي، ليتولى زعامة جمهورية الصحراء وجبهة البوليساريو، ويبدو أن عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية بومدين أنداك ورفيق دربه كان عليما بما يجري، نصح بجس نبض من معارفه تنطبق عليه جميع المقاييس وأكثر .. وتم الاتصال بالباهي، ودعي إلى لقاء خاص ومطول مع هواري بومدين .. وبعد اللقاء أعلن لنا أنه راحل، ورحل الباهي في اليوم التالي إلى باريس، وكتب رسالته الشهيرة في جريدة “المحرر” إلى بومدين، ولم يدخل الجزائر بعدها حتى وفاة بومدين.

الرواية نفسها أكدتها الصحافية والكاتبة زكية داود، والتي أوردت على لسان باهي قوله ” لقد عشت حياة معقدة، لقد نجوت من الموت مرات عديدة، من بينها المرة التي رفضت فيها تسيير البوليزاريو”.

 مات باهي الصحافي وعاش باهي المؤرخ
المنقب في حياة باهي يخرج بخلاصتين أساسيتين، الأول كونه ينقب في حياة إنسان لبس “دربالة المناضل” منذ صرخته الأولى، والثانية أنه أمام صحفي حول مقالاته الصحفية من منتوج مستهلك يضيع مع الزمان إلى وثائق شاهدة عن تفاصيل تشكل مرحلة تاريخية، تبوح بالكثير من الأسرار عند استنطاقها.

“يعتبر باهي من كبار صحفي العالم العربي والدولي، تربطه بالإعلام مدة تفوق 40 سنة”، حسب الرسالة التي قدم بها الزعيم الاتحادي الراحل عبد الرحمان اليوسفي، الراحل باهي لأسرة تحرير جريدة الاتحاد الاشتراكي، خلال أحد اجتماعاتها في ماي سنة 1996، ليرحل عن عالمنا باهي الصحافي شهرا بعد ذلك، أي في 6 يونيو 1996.

كثيرون هم الصحافيين والإعلاميين الذين رحلوا عن دنانا في صمت، وكل ما خلفوه لا يعدو أن يكون سيرة حسنة وأعمال محدودة في زمان والمكان، غير أن ما تركه باهي أكبر من مجرد ذكرى طيبة، فإسم باهي لوحده إحالة على محطات من تشكل تاريخ مغربنا المعاصر.

ترك باهي أعملا جمعها رفيق دربه مبارك بودرقة، صاحب الإسم الحركي عباس، في مؤلف قريب من المجلد، موسوم بعنوان “رسالة باريس؛ يموت الحالم ولا يموت الحلم” يضم بين دفته 2229 صفحة، من خمسة أجزاء، من خلال الغور في ثناياها، واستنطاق ما بين سطورها، يمكن الوقوف على جزئيات تاريخ المغرب الأقصى والكبير من مقاومة الاستعمار إلى تجربة التناوب التي أنعشت قلب المغرب وحمته من السكتة القلبية التي حذر الراحل الحسن الثاني منها.

مات باهي الصحافي وعاش باهي المؤرخ، فمتى يتحول الصحافي إلى مؤرخ؟
سؤال تتطلب الإجابة عنه بحثا أكثر عمقا، وهو ما نذرنا أنفسنا للقيام به في القادم من الأيام، من خلال تسليط الضوء على نماذج صحفيين ساروا بحكم أعمالهم مؤرخين، وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر إلى جانب المرحوم باهي الراحل العربي المساري، وزميله الراحل مصطفى العلوي، والكبير خالد الجامعي، الذي رحل عن دنيانا في عام الجائحة.
للحديث بقية…

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x