2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
سيرة تلفزيون..

ليس التلفزيون قطاعا فحسب، بل هو منتج العقل الأداتي الذي تحوّل بفعل الهيمنة على زمان الوعي الاجتماعي إلى منفى أنطولوجي فيه تتقوم بنية الوعي وتستعاد..يدخل هذا الصندوق السحري إلى عمق البيوت ثم سرعان ما يحتوي أهله في بحر متلاطم من الصورة..
هل تدرون قبل كل شيء ما معنى وهم التلفزيون تقنيّا؟
دعني أشرح لكم ذلك تماما..إنّ التلفزيون في مبتدئه التقني هو حالة من القذف المدفعي المستمر الذي يرسل صورة متقطعة يساعد على تنسيقها بطؤ امتلاكنا للصورة بصريا بالمقارنة مع الحركة الضوئية الأسرع..أي بتعبير آخر : من قبل أن يرتد طرفك..إنه الخداع التقني واللعب بالقوة البصرية كما نلاحظ ذلك في سحر الخفة..
يهمنا هنا في كل هذا المسار الذي تتبعه عملية تشكّل الصورة، حكاية المدفع المثبث خلف واجهة التلفاز..لكن ثمة مدافع أخرى تقذفنا بالقيم المحتالة على حركة الوعي وتمرر على حين غفلة لكنها تتجاوز حتى البعد الأيديولوجي لهيمنة الصورة، أعني الوظيفة الانحطاطية للتلفزيون ورشق المشاهد يوميا بمدفع الأذواق الرديئة والمضامين التّافهة..
تستوي الدراما والكوميديا في هذه الظاهرة التي أسمّيها جنون الانحدار..حين ترسم منحنى لحجم العبارات التي تخترق حرم البيوت عبر هذا الجهاز العدواني تدرك أن المسألة تفوق كونها مجرد صدفة، بل هي محاولة ممنهجة لردم الهوّة التّاريخية بين قيم الأسرة وقيم الشّارع..
ولا يوجد ما يشرّع لهذا المعنى الذي يجعل من التلفاز استراتيجيا لتخريب الأزواق ومنظومة القيم بدعوى الفصل بين الفرجة أوالترفيه والتربية على القيم الجماعية وتنميتها..
التلفزيون يساهم في تخريب ما تبقّى من أذواق سليمة في المجتمع..والوقاحة فنّ والتّفاهة دراما والتهريج كوميديا والكل يصفّق للرداءة التي تجتاح قطاعات المجتمع وكأنّها في حالة تواطؤ سافر يستغبي المشاهد الذي يعجز عن مقاطعة التلفزيون لأنّه الشكل الوحيد للإدمان المتاح..
باتت الدراما والسيتكومات عبارة عن استثمار في العاهات والاستخفاف بذوي الحاجات الخاصّة وغياب المضمون الجمالي والتربوي مما يجعل التلفزيون أداة وقحة في غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة لحماية الجودة وتحرير التلفزيون من التّفاهة.. تبدأ سيرة التلفزيون المغربي منذ البداية من كونه كان تلفزيونا وطنيا في الظاهر لكنه في الواقع كان عبارة عن تلفزيون حارة رهنت الذوق المغربي ردحا من الزمن..لقد كان بالأحرى تلفزيون الحيّ المحمّدي لا يوجد غريب عنه سوى قليلون أمثال الأستاذ البوعناني الذي منح للتلفزيون المغربي نكهة ثقافية عامّة والشيخ مكّي النّاصري الذي أعتبره مثالا لمتولي الشعراوي المغرب الذي كان يتحف المشاهد بتأملات في التفسير، نعم، وهناك شيئ أجنبي عن الحي المحمّدي وهو: أنا اللّيمونة..كان هذا الحيّ محظوظا لسبب واحد هو أنه احتضن أول دار للشباب في البلاد..ونبتت هناك مهارات شعبية كسرت الحسابات الطّبقية وكان ذلك هو حظّ الكاريان سونترال من النضال الفنّي ذي الطابع العصامي في المسرح والغناء والدراما، وكان أن زرع الطيّب الصّدّيقي ثقافة التبوهيل المسرحي التي لقت في الحي المحمدي هامشا على الأقل كانت لغة التلفزيون يومئذ هي لغة الملحون..
لكن المشكلة هي أن التلفزيون لم ينفتح على أقاليم وخبرات اجتماعية أخرى حيث ظلّ العصب الأساسي للتنشيط التلفزيوني المغربي وفيّا للحارة: الحي المحمدّي.. كأن التلفزيون يومئذ أقلّ جرأة على التّفاهة..كأن تلفزيونا رغم محدوديته يحترم الأسرة ولا يطبّع مع لغة الشّارع..لكننا سنصبح أمام مشهد آخر: ممثلون يتلوّون كالمعاتيه ومنشّطون سطحيون يحسبون لازماتهم الطبيعية فنّا، ولا شيء في هذا التكرار مقنع وكأنّنا أمّة تتمتّع بالقابلية للرداءة..صناعة النجوم هنا لها حكاية غامضة تشبه صناعة النجوم في المجال الثقافي برمّته..صحيح أنه ليس بالإمكان الحديث عن استثناء التلفزيون في زمن الرداءة باعتباره قطاعا يتأثّر بسائر القطاعات، لكنه مساحة تنعكس عليها أزمة الذّوق العام..بين تفاهة وأخرى ينبت مسلسل تركي لا نهائي يربّي على السطحية في المشاعر والتكرار لأنّ حكومة البي جي دي “ترّكت” الدراما وبيّئتها بفضل الدبلجة..وهي مسلسلات تربّي على هدر الوقت..مسلسلات بالية لا يهتم بها الأتراك أنفسهم أكثر مما يفعل المشاهد المغلوب على أمره عندنا..غرق المشاهد المغربي في التّفاهة المحلّية والاستغباء الخارجي..ما هو حجم الثقافة داخل التلفزيون؟ ما هو حجم الفنّ الرّاقي ؟ لماذا تتكرّر الوجوه التي توحي بحالة من ديكتاتورية التكرار والاحتكار لتلفزيون يتقوّم بأموال الضريبة على القيمة لمجتمع له الحقّ في الرّقيّ..لماذا تغيب التنافسية في القطاع المذكور؟ التلفزيون في حدّ ذاته أداة ديكتاتورية فلما يحتكر تلفزيون واحد المشهد تصبح الديكتاتورية مضاعفة..لقد بات التلفزيون المغربي عرضة للآفات: للبداوة، التكرار، الرداءة، الزقاقية، التسطيح، الاستغباء، العبثية، القبح،”التشمكير”..أحاول منذ سنوات أن أقنع نفسي يشيء من هذا المعروض الفرجوي ولكن عبثا..أعتقد أنه بلغ الباب المسدود..