2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

عادل بن حمزة
يصادف شهر كانون الثاني (يناير) مرور 11 سنة على انطلاق “الربيع العربي” من تونس، لذلك يشكل هذا الشهر لحظة للتأمل في مصير “الربيع” كلما حلت ذكرى انطلاقه، كما أن الأحداث الأخيرة التي عرفتها كازاخستان في آسيا الوسطى بالتوازي مع ما يعرفه شد الحبل بين روسيا وحلف الناتو حول مصير أوكرانيا، يمثل أيضاً فرصة لاستعادة تجربة “الثورات الملونة” التي عرفتها الكثير من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً والمآلات التي انتهت إليها تلك الثورات وقادتها.
لا يشكل ما سمي بـ”الربيع العربي” حالة خاصة من الثورات على المستوى الدولي، بل هي موجة جديدة يمكن اعتبارها دفع حساب مؤجل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لما عرفه العالم بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي، إذ استطاعت أنظمة كثيرة في المنطقة أن تمد في عمرها لسنوات… يبقى أن انتفاضة شعوب المنطقة في الفترة بين كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) 2011 كانت، تقريباً، استنساخاً لما عرفته بلدان المعسكر الشرقي عقداً قبل ذلك، فلا هي حسمت مسار الدول والشعوب، ولا هي حافظت على الاستقرار، وحدها القوى الخارجية من فُتحت لها الأبواب ليزداد نفوذها وتأثيرها في التوازنات الجيواستراتيجية، مع بعض الاستثناءات التي عملت فقط على تأكيد القاعدة، لذلك من المفيد الإطلاع على ما سمي “بالثورات الملونة” لامتلاك القدرة على فهم ما جرى في منطقتنا والقدرة على توقع ما ستحمله رياح المستقبل في بيئة دولية متقلبة.
اتخذت الثورات التي عمت عدداً من بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية، أسماء مختلفة لا تقل جاذبية عن اسم “الربيع العربي”، ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2003 اندلعت بجمهورية جورجيا ما سمي بـ”الثورة الوردية” وقد سميت بهذا الاسم تخليداً لواقعة دخول زعيم المعارضة ميخائيل ساكاشفيلي قاعة البرلمان مقاطعاً خطاب الرئيس إدوارد شيفرنادزة وملوحاً في وجهه بوردة حمراء ومطالباً إياه بالرحيل عن السلطة. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2004 اندلعت احتجاجات واسعة في أوكرانيا ضد الرئيس فيكتور يانكوفيتش، وعرفت الانتفاضة الأوكرانية بـ”الثورة البرتقالية” نسبة إلى اللون البرتقالي الذي اعتمدته المعارضة في تظاهراتها المليونية بقيادة كل من فيكتور يوشينكو، ويوليا تيموشينكو، كما عرفت قيرغيزيا ثورة في آذار (مارس) 2005 سميت “ثورة السوسن” أو “التوليب” ضد الرئيس عسكر باسييف، وقد حسمت بانتخاب كرمان بيك بكاييف في تموز (يوليو) من نفس السنة. وفي نيسان (أبريل) 2009 عرفت مولدافيا ما سمي بـ”ثورة العنب” احتجاجاً على فوز الشيوعيين بالانتخابات البرلمانية، فجرى تنصيب ميخاي جيمبو رئيساً للبلاد كرمز من رموز ائتلاف التحالف من أجل التكامل الأوروبي، وحده لبنان من بين بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من كان في الموعد سنة 2005 عبر “ثورة الأرز” التي اندلعت عقب اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية رفيق الحريري، وكان في صدارة مطالبها تحرير لبنان من الوجود السوري وإعادة “حزب الله” إلى حجمه الطبيعي كفصيل سياسي من بين فصائل أخرى وذلك بتحييد سلاحه.
وفي أقصى شرق آسيا شهدت ميانمار وهي بلد المناضلة والحقوقية، أونغ سان سو تشي، زعيمة الرابطة الوطنية للديمقراطية في ميانمار، ونجلة الجنرال أونغ سو الملقب بـ”أبو الاستقلال” الذي تم اغتياله عام 1947، فازت سنة 1991 بجائزة نوبل للسلام، قادت سو تشي نضالاً مثيراً للإعجاب ضد المجلس العسكري لمدة 20 سنة، قضت منها 15 سنة في السجن من بينها 6 سنوات سجناً انفرادياً، فاز حزبها بالانتخابات عام 1990 لكن المجلس العسكري انقلب على النتائج، وعادت الرابطة الوطنية لتفوز في انتخابات سنة 2013 إذ حصلت على الأغلبية في البرلمان ملتزمة بمعالجة إرث سنوات حكم المجلس العسكري وتعزيز الممارسة الديموقراطية وحماية الحريات. وتجدد في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020 الفوز الساحق للرابطة في الانتخابات التشريعية وسط حملات تشكيك في نزاهتها من قبل قادة الجيش، وهو التشكيك الذي تطور إلى انقلاب عسكري كامل عطل الدستور والمؤسسات الدستورية ووضع قادة الرابطة والبلاد في الأسر مجدداً.
في تجربة “الربيع العربي” يبدو شهر كانون الثاني (يناير) شهراً مرتبطاً بإنتفاضة الشعب التونسي التي كانت مقدمة لما سمي بـ”الربيع العربي”، انتفاضة حملت كثيراً من الآمال وعرفت كثيراً من الآلام، لكنها اليوم تواجه مخاطر جدية بخاصة بعد القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد في 25 تموز (يوليو) 2021، وهي قرارات تتسع بشكل يومي دائرة رفضها سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، أمام تعطيل شبه كلي للمؤسسات والدستور.
النموذج التونسي على عهد التجمع كان يمارس إغراءً حقيقياً على عدد من الأنظمة في المنطقة، ولعل نجاح بن علي في كسب الدعم الأوروبي وتسويق “انجازات” اقتصادية، ساهم في عزل أي خطاب معارض، كما أن “حزب التجمع” نجح إلى حد كبير في تحجيم المعارضة داخلياً بالنظر إلى قوته التنظيمية والتأطيرية، أما الأحزاب التي كانت تشارك التجمع في اللعبة السياسية؛ وواصلت بسذاجة تصديقها لوعود بن علي بعد عزل بورقيبة، فقد ظلت تنتظر حصول التغيير بانتظارية قاتلة، لكن ما الذي جعل التجربة التونسية بعد ما سمي بـ”الربيع العربي”، تبدو أكثرها قدرة على النجاح، ذلك لأنها رغم اسقاط بن علي حافظت على استقرار مؤسسات الدولة والحد الأدنى من السلم والأمن، كما أنها الدولة الوحيدة من دول “الربيع” التي أجرت انتخابات لم يطعن فيها أحد بالتزوير – بالطبع نتحدث عن الطعن السياسي -، وهي الدولة التي عاد فيها جزء من القيادات التجمعية الدستورية عبر صناديق
الانتخابات في تكرار للسيناريو الذي عرفته أوكرانيا بعد “الثورة البرتقالية” وذلك رغم الحديث المتكرر عن قانون العزل السياسي، وهي الدولة التي انتخبت ثلاثة رؤساء للدولة بعد بن علي.
يعود الفضل في ذلك كله، لوجود تقاليد دولة تعود إلى فترة الراحل الحبيب بورقيبة، الذي رغم كل الملاحظات التي يمكن أن تقدم حول فترة حكمه ومنهجه في قيادة السلطة، فإنه لا يمكن إنكار الجهود التي قادها، في النهوض بالمرأة وتحضر المجتمع التونسي ونشر التعليم، كما أن النظام في تونس لم يرتكز في أي لحظة من اللحظات على المؤسسة العسكرية، رغم أن ذلك كان موضة سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ما أهّل المؤسسة العسكرية بعد 14 كانون الثاني (يناير) 2011، أن تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار ووحدة تونس، لأنها لم تتورط في تجربة الحكم الشمولي لزين العابدين بن علي، ولأنها كانت على نفس المسافة من جميع الأطراف السياسية. هذه الصورة المثالية عن تونس تغيرت منذ قرارات 25 تموز (يوليو) الماضي ولا أحد يستطيع توقع مصير البلاد في الأيام القادمة، بخاصة بعد عودة ممارسات تحد من الحقوق والحريات.
يبدو أن “الثورات الملونة” وثورات “الربيع العربي” لم تنصف الثوار، بل أفرزت نتائج عكسية، ففي جورجيا تدنت شعبية سكاشفيلي إلى مستويات غير مسبوقة، وعرفت البلاد في عهده الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بل إن الرئيس الرمز، تراجع عن الكثير من الشعارات التي حملها خلال الثورة، أما في أوكرانيا فقد انتهت “الثورة البرتقالية” كما يعرف الجميع بفضائح كبيرة، منها قضايا فساد مالي واستغلال النفوذ، بل إن أيقونة الثورة يوليا تيموشينكو التي شغلت منصب رئيسة الوزراء، انتهت معتقلة في سجون كييف، كما أن الانتخابات الرئاسية التي أجريت سنة 2010 أعادت الرئيس المطاح به فيكتور يانكوفيتش في سابقة من نوعها بالنسبة للثورات في العالم، بينما منيت المعارضة البرتقالية بهزيمة نكراء.
وفي قيرغيزيا انتهت الثورة بثورة أخرى سميت “ثورة الوقود” نسبة إلى قرار الحكومة القيرغيزية رفع أسعار الوقود في وقت وصلت فيه البطالة إلى نسبة 40 في المئة. أما في مولدافيا فبقدر ارتماء الرئيس جيمبو في أحضان الاتحاد الأوروبي، بقدر ما تصاعدت موجة من الاحتجاجات قادها الشيوعيون في شوارع العاصمة كيشينوف، وفي ميانمار انتهى الأمر بالحكم على الزعيمة سان سو تشي قبل أيام بالسجن أربع سنوات.
في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، لم تكن الصورة أحسن حالاً، ففي لبنان وهو خارج سياق “الربيع العربي”، خرج الجيش السوري لكن “حزب الله” حافظ على موقعه، بل تعزز هذا الدور داخلياً وخارجياً. أما في ما يتعلق ببلدان “الربيع العربي” فبعد ثلاث سنوات من الرومانسية الثورية في ساحات تونس والقاهرة وصنعاء وطرابلس ودمشق، وبعد رحيل كل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك وعلي عبدالله صالح والعقيد معمر القذافي، طلعت ساعة الحقيقة لتكشف عن واقع صعب. ففي تونس انتهى الأمر بالبلاد بانتخاب رئيس من خارج سيرورة الثورة ومن خارج النسق السياسي يقود تغييراً جذرياً في البلاد منذ 25 تموز (يوليو) الماضي في اتجاه تكريس حكم فردي خالص، بل بلغ الأمر محاكمة الرئيس الأسبق منصف المرزوقي والحكم عليه بالسجن أربع سنوات. أما في ليبيا فقد تحولت الميليشيات المسلحة إلى اللاعب الرقم واحد على الساحة، مستغلة الغياب الكلي لمفهوم الدولة على امتداد 40 سنة من حكم العقيد القذافي، بل إن وحدة ليبيا الترابية كانت مهددة بشكل جدي بما يحمله ذلك من مخاطر التقسيم على منطقة الساحل والصحراء برمتها وذلك بفعل الصراعات الدولية المباشرة وغير المباشرة في المنطقة. ويؤدي استمرار عدم التوافق على القواعد التي ستؤطر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لحسم موضوع الشرعية إلى اعتبار مستقبل ليبيا مجهولاً ومفتوحاً على أكثر من احتمال، أما في اليمن وسوريا فإن الحرب أعادت عقارب الساعة بهما إلى الوراء وتحول البلدان إلى قطعة جحيم حقيقي…
في الموجة الثانية لـ”الربيع العربي” جرفت مسيرات الشعبين السوداني والجزائري كلاً من عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، لكن بنية الدولة العميقة في كل من الخرطوم والجزائر ما زالت تقاوم التغيير من خلال الانقلاب على الحراك الشعبي واللعب على تناقضات الشارع والمعارضة مع بقاء الأوضاع بهما مفتوحة على جميع الاحتمالات، وما لم تستطع فعله الدولة العميقة، تكفل به فيروس كورونا الذي حاصر الناس في بيوتهم ونزل بسقف المطالب التي كانت مرفوعة إلى حدودها الدنيا في انتظار تداعيات الوباء في السنوات القادمة وهي تداعيات إما أنها ستسرع دخول عدد من بلدان المنطقة في دوامة عدم الاستقرار، وإما أنها ستفتح مسارات جديدة للشعوب والأنظمة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا.