لماذا وإلى أين ؟

ٍواقـــعُ (أغْـــروم) في مـغْـرِبنا

يحــــتلُّ الخـــبز، أو أغروم بلسان مازِغ، في الثقافة المغربية،  مكانة قوية عند الحديث عن الأكـل أو الطعام، و هي  مكانة مادية  و اعتبارية  في ذات الوقت ، و هي كذلك بالنسبة لمعظم العائلات، سواء تعلق الأمر  بالطبقات الفقيرة أو المتوسطة بل و حتى الفئات الغنية من المجتمع المغربي،  فحضور الخبز على الموائد  أمر مطلوب و لا يُقبل عنه بديل .

المكانة العالية التي يحظى بها هذا المكون الغذائي في المجتمع المغربي جعله يشكل خطا أحمر لا يجوز المساس به تحت أي ظرف، بل إن الطقوس و التقاليد المنتشرة في الأوساط الشعبية للمجتمع المحلي اجتهدت من الناحية الثقافية، إن صح التعبير، لتصنع منه شيئا يتبوأ مكانة تقترب من القداسة، لذلك فالملحوظ أن الأفراد يتعاملون مع الخبز باحترام شديد و بهيبة منقطعة المثيل في وقت لا تحظى فيه بنفس المكانة باقي المواد المهيئة للإستهلاك الآدمي رغم قيمتها الغذائية العالية.

لقد شكل توفير الخبز على الدوام دليلا على الخير المرتضى، إلى درجة أن عامة الناس حين يرغبون في نعت واحد منهم بالكرم، فإنهم يطلقون عبارات من قبيل ” يعطي الخبز” أو ” معه الخبز”، و هكذا أصبح عنوانا للدلالة على مطلق الخير و عموم ما يعتبره الإنسان جميلا كالطعام و المال و الكسوة و غير ذلك من المتع.

“الحضور” القوي للخبز في الثقافة الوطنية كان من بين تجلياته السياسية، التي عكست مكانته المادية و الأدبية الرفيعة لدى عامة الجمهور، اندلاعُ أحداث عاصفة سجلها تاريخ البلد، كما حدث، على سبيل التمثيل، في سنة 1981 بالدار البيضاء التي شهدت انتفاضة عارمة بسبب رفع أسعار المواد الأساسية، و من دلائل هذا الحضور الجامح للخبز في الموروث الثقافي للبلد أن وزير الداخلية آنذاك ادريس البصري وصف القتلى الذين سقطوا بنيران سلاح الشرطة أو الجيش بكونهم (شهداء الكومّيرة) أي أنهم شهداء الخبز، فاسم  “الكومير” و هو مفرد “كوميرة ” يطلقه المغاربة على نوع من الخبز الفرنسي ذي شكل مستطيل، و لا يعلم أصل هذا الاسم  و مصدر اشتقاقه .

و بالرغم من أن البصري كان يقصد الإستهزاء بضحايا المجزرة و إدعاء منه بأن الشهادة الحقيقية لا تتحقق عندما تقترن بالخبز، إذ أنه بحسب فهمه أرخص من أن يكون موضوعا للشهادة، إلا أنه، رغم ذلك، وظّـف مصطلح ” الكوميرة”  و لم يستطع  تبعا لذلك التخلص من سطوة الخبز على لاشعوره و تفكيره السياسي في مواجهة المنتفضين و قادتهم المٌفترضين.

بعيدا عن سنوات الرصاص، و عن المناقشات السياسية حول الوضع الإقتصادي بالمغرب و مدى عدالة نظام توزيع الثروات الوطنية بين المغاربة، يمكن الجزم بإن مستوى عيش الناس قد تحسن مقارنة بما كان الحال عليه في عقود الستينات و الثمانينات من القرن الماضي، و الدليل الأقوى و الأظهر للعيان على هذا التحسن أن مادة الخبز، التي كانت تندلع بسبب قلتها أو بسبب أسعارها الثورات الجامحة و الإنتفاضات العارمة، أصبحت الآن متوفرة في الأسواق بشكل يرضي جميع الأذواق، بل إن العرض يفوق الطلب بكثير، حتى إن مصادر إحصائية تؤكد إنتاج ما يفوق 120 مليون خبزة يوميا بينما يبلغ معدل الاستهلاك الفردي في مدينة كالدار البيضاء خمس خبزات في اليوم الواحد، لكن ماهي تداعيات وفرة الخبز على الإقتصاد الوطني؟
مناسبة الحديث عن هذا الموضوع ترتبط أساسا بما ستتسبب فيه الحرب الروسية الأوكرانية، إذ أنها ستكون شديدة التأثير على وضعية الخبز في البلد، فالمملكة تستورد المادة الأولية لصناعته، أي القمح، من دولة أوكرانيا، و مادامت الأخيرة في حالة حرب فإن حجم الواردات منها سينخفض، و في المقابل سترتفع كلفة استيراده بشكل حاد، خصوصا أن الاستيراد لا يتم إلا بواسطة إحدى العملتين اليورو أو الدولار.
إن خزينة الدولة تفقد يوميا ملايين الدراهم من أجل دعم أسعار مادة الخبز الحيوية بالنسبة للمغاربة، و ربما كانت الخسائر أكبر من ذلك بكثير، و هو أمر قد يكون مقبولا بل مطلوبا عندما يتعلق الأمر بحماية الإستقرار السياسي و الإجتماعي للدولة، لكن هل طرح أحدهم أسئلة موضوعية حول: مدى تناسب الخسائر التي تتكبدها خزينة الدولة بدعمها الخبز مع ما يتحقق على أرض الواقع من استقرار؟ و ما إذا كان المعنيون الحقيقيون بالدعم، أي الفقراء، يستفيدون فعلا من الدعم العمومي الذي تقدمه الدولة؟ و هل يذهب كل ما تنتجه المخبزات المغربية من خبز و رغيف إلى الأفواه الجائعة حقا ؟ ألا تجب إعادة النظر في طرق دعم الخبز بشكل يحقق الغاية منه؟ ألا يفرض الواقع الجديد و المتغير بناء ثقافة استهلاكية جديدة لا يشكل فيها الخبز قطب الرحى؟ ألا يجب تحرير سعر الخبز حتى نعيد النظر في طريقة استهلاكنا له بشكل يمنعنا من إلقاء ربع ما تنتجه المخبزات في المزابل و ينتهي به الأمر كعلف للثدييات و الدواجن ؟
إنها أسئلة تستحق الإجابة عنها بكل تأنٍّ و موضوعية، و إلا فإن المغرب سيكون  حتما مهددا بمجاعة حقيقية إذا لم يحسن التعامل مع التطورات التي يعرفها سوق القمح العالمي، بسبب تحولات العرض و الطلب، و قبل ذلك  بسبب ذلك التغيرات المناخية الجافة،و ستكون تداعياته على واقع أغـْـــروم بمغربنا حتما فضيعة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

3 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
Hamam
المعلق(ة)
الرد على  Moh
17 مارس 2022 08:50

تدخلي في شقين أولهما اريد أن أوضح أن أصل الكومير جاء كما يلي: أثناء الاستعمار الفرنسي كان العمال المغاربة يحصلون على الخبز من رب العمل بطريقة سيئة وفي وقت محدد . فكلما حان ذلك الوقت نسمع رب العمل (النصراني) يقول: Allez le cou au mur. وعند سماع هذه الجمل الكل يتسابق لاخذ حصته من الخبز والعنف متواز مع الحائط. وعند اقتراب وقت أخذ الحصة تسمع العاملون يرددون: أنه وقت الكومير.
أما الشق الثاني فإدراج كلمة أغروم في العنوان لا معنى لها اللهم إن كان الهدف منها هو جذب الناطقين بالمازيغية حيث أن الموضوع ليس له أهمية كبيرة لدى المواطن المغربي العربي والمازغي.

Moh
المعلق(ة)
17 مارس 2022 07:36

موضوع جيد ..طرح كل الاسئلة بدقة حول اغروم وعلاقته بالثقافة والسياسة .اغروم في الحقيقة غذاء سيء خصوصا مع طرق اعداده الحديثة .اعادة النظر في طريقة استهلاكه حتمية بسبب السياسة اولا ثم بسبب اشكاليات الصحة ثانيا خلاصة ..اغروم والبارود قد لا يخلفان كثيرا

Moh
المعلق(ة)
16 مارس 2022 23:43

الكومير غتلبا استعارها المغاربة من الاسبان الذين يطلقونها على مطلق الطعام وفعل الاكل ..المغربي لا يستسيغ اكل اي شيء بدون خبز حتى ان هناك من يأكل الكسكس والمعجنات والارز مع الخبز ههه وهناك من يأكل العنب والدلاح مع خبز وهناك حتى من يأكل بعض حلويات الكريمة بالخبز هههه …شعب العجائب

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

3
0
أضف تعليقكx
()
x