2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

عادل بنحمزة
أعلنت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في فرنسا مرور إيمانويل ماكرون إلى الدور الثاني برفقة مارين لوبن، وذلك في تكرار لما جرى في رئاسيات 2017. الانتخابات الرئاسية الفرنسية كرّست، من جهة، انهياراً تاماً لنظام الثنائية الحزبية باندحار الحزبين التقليديين، الحزب الاشتراكي وحزب الجمهوريين، ومن جهة أخرى تحول اليمين المتطرف إلى صانع للرؤساء، وذلك من خلال الاستثمار في خوف الناخبين من وصول التجمع الوطني إلى سدة الرئاسة في الدور الثاني، غير أن جولة الإعادة القادمة تبدو ظروفها وسياقاتها مختلفة تماماً عمّا جرى سنة 2017، لكن مع ذلك يبقى ماكرون أقرب إلى التجديد بوصفه أضحى الرئيس “الضرورة” كعلامة على أزمة عميقة يعرفها المشهد الحزبي والسياسي الفرنسي.
ماكرون الذي لم ينجح في تقديم وصفة ساحرة لفرنسا مختلفة كما وعد في عهدته الأولى، لجأ إلى الاستثمار في خطاب اليمين المتطرف في كل حادثة إرهابية عرفتها فرنسا، بل إن الرئيس الفرنسي تحدث عن مشكلة يواجهها الإسلام حول العالم.
هذا الكلام جاء في سياق كان الجميع يتابع فيه كيف فشلت فرنسا في مواجهة جائحة كورونا، وهو ما يكشف أن كثيراً من السياسيين الفرنسيين، وعلى رأسهم ماكرون، يعيشون أزمة برنامج ورؤية، ما يدفعهم إلى إعادة إنتاج خطاب اليمين المتطرف عبر تكريس رُهاب المهاجرين والقضايا المرتبطة بالهجرة بصفة عامة، إضافة إلى توظيف الإسلاموفوبيا وجملة العداء للأجانب، وذلك للتغطية على الأعطاب البنيوية التي يعيشها الاقتصاد الفرنسي، وللهروب من تقديم حلول واقعية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية للفرنسيين.
كل ذلك يتم بهدف استقطاب أصوات اليمين المتطرف الصاعد في فرنسا، ولو أن ماكرون الآن هو بحاجة إلى أصوات اليسار، وبخاصة مؤيدي ابن طنجة المغربية جون لوك ميلانشون الذي كان بإمكانه المرور إلى الدور الثاني لولا تشردم اليسار كعادته.
ما يمثل مشكلة حقيقية اليوم في فرنسا، ليس فقط التنافس في ضفة اليمين، وقد أوضحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة كيف يمكن لوسائل الإعلام أن تساهم في تجديد زعامات اليمين، وبخاصة المتطرف، وذلك عبر ما مثله إريك زيمور من نموذج، بل هذه النزعة الشمولية التي تسعى إلى تحويل الإسلام إلى حالة رهاب جماعية وفق إجماع قسري، برز ذلك بروزاً صريحاً وواضحاً سنة 2015 عقب الهجوم الإرهابي على مجلة “شارلي إبدو”، وإن كان كثير من المثقفين قد خضعوا لتلك الأجواء التي عمّت فرنسا، فإن المفكر إيمانويل تود (Emmanuel Todd) مثّل حالة خاصة لم تكتف بدور الاستثناء، بل إنها ساهمت في تعرية هذا الإجماع الخادع.
يقول تود: “يخطئ المثقف هدفه الأساسي، إذا استكان إلى خطاب العامة، ووافق الجمهور في كل ما يذهب إليه صوناً للإجماع الوطني”. قال ذلك في لحظة فاصلة من حياة فرنسا عندما تحوّل الإرهاب في حادثة “شارلي إبدو” إلى حافز لإجماع وطني قسري مسيّج بشمولية قاتلة، تناقض المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية من حرية التعبير والرأي، فكان تود بذلك حالة فريدة، غرّدت خارج السرب وطرحت على فرنسا الشعبية والعالمة أسئلة عميقة تتعلق بالهوية وبالوعي السيوسيوثقافي والديني للمجتمع الفرنسي، وقد جاء ذلك مضمناً في كتابه المثير “من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية”.
يقول إيمانويل تود في الكتاب الذي تعرض لهجوم واسع، إن السوسيولوجيا الدينية تظهر لنا السّمة غير التاريخية للخطاب المناصر للعلمانية الراهن في فرنسا، والمعارض بحدّة للنزعة الطائفية، فهو بشكل ما يحيل إلى ماض… يجزم تود، بقراءة تاريخية علمية، أنه لم يوجد يوماً.
خلال قرنين “كانت فرنسا مزدوجة، فقد كانت في آن أماً للثورة وبنتاً للكنيسة، طائفية في الواقع العملي على المستوى المحلي. وتتمثل العبقرية الحقيقية للجمهورية الثالثة في تمسكها بخطاب عن الوحدة وعدم الانقسام، وفي الوقت نفسه تمارس طائفية براغماتية، أو على وجه أدق طائفية صارت براغماتية بسبب قرن ونصف من الصراعات بين الجمهورية والكنيسة”، إذ في النهاية، تعوّدت ماريان رمز الثورة الفرنسية، على العيش المشترك مع مريم كرمز للمسيحية.
في إحدى الخلاصات، يؤكد إيمانويل تود أن المجتمع الفرنسي يواجه مشكلات كثيرة لا يمكن اختزالها في ما يسوّق له اليمين المتطرف واليمين التقليدي أو الأفكار اليمنية المستجدة، من انتشار الإرهاب الإسلاموي في الضواحي، بل إن الأمر أوسع من ذلك، فالتركيز على الإسلام يعبّر في الواقع عن “حاجة مرضية” لدى الطبقة الوسطى والعليا “لكراهية شيء ما أو شخص ما وليس فقط الخوف من تهديد قادم من قاع المجتمع”، ذلك أن فرنسا، بحسب تود، تعاني أزمة وجودية حادة وفراغاً روحياً قاتلاً جراء تراجع المسيحية واختفاء الإيمان وسيادة الإلحاد، لذلك فما يحدث اليوم هو أن جزءاً واسعاً من المجتمع الفرنسي يملأ حالياً هذا الفراغ الميتافيزيقي بأيديولوجيا جديدة عنوانها الأساسي الإسلاموفوبيا والتهجّم على الإسلام والمسلمين.
لا يكتفي تود على امتداد كتابه بفضح الأزمة الدينية التي تعرفها فرنسا وفق منهج علمي صارم، بل يفضح أيضاً انتهازية النّخب الفرنسية وازدواجية تعاطيها مع شعارات الجمهورية ومبادئها، ففي الوقت الذي تم جر الحشود في مسيرة 11 كانون الثاني (يناير) 2015، وفتح الإعلام منصات للترافع حول حرية التعبير، فإن تلك النخب نفسها أضحت لا تؤمن بالمساواة التي بدورها تمثل شعاراً مركزياً للجمهورية ومبادئها، ودليل ذلك، عدم المساواة السائدة في المجتمع الفرنسي والتي للمفارقة لا تثير تلك النخب، ولعل “ثورة” السترات الصفر كانت أحد أبرز العناوين التي ذكرت بذلك الشعار المنسي…
ماكرون الذي مثل انتخابه في ولايته الأولى عنواناً لأزمة سياسية تمثلت في نهاية ثنائية اليسار واليمين، يمثل اليوم ترشحه للدور الثاني واحتمال فوزه بولاية ثانية ضد اليمين المتطرف، يمثل أيضاً عنواناً لاستمرار الأزمة السياسية العميقة التي تعرفها فرنسا، فهل تستطيع فرنسا مواجهة الحقيقة والبحث عن حلول بنيوية، أم أنها ستغرق أكثر في إنكار الواقع؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.