لماذا وإلى أين ؟

المَــــوْتُ الشّقيق…

 يوسف الحرّاق

هلْ أعرفُكَ يا جَليسِي، أمْ هيَ سِنَةٌ منَ الحُلْم تجتاحُني في ساعة الزّوال ، أم هوَ خُشوع الصّمتِ يلُفُّ هذا الباص رقم 43 على طريق العُمُر. جلستَ خلسة دون أن تنظُرَ إليّ، وعيناكَ تتلصّصُ شاشة كَفّي وجوّالي تبحثُ عن تفاصيلي، تحشرُ أنفكَ حواليَ تشاركني الأوكسجين الساخن داخل هذه العربة الهاربة.

هل أعرفُكَ؟ أنت الذي تلاحقُ ظلّي كمُخبر يُعوزهُ الصّبر وتنقُصهُ الخبرة. تفتّشُ جيوبي ودواليبَ مكتبي، بل وتقرأُ معي كُتُبي وفواتير الحياة التي أدفعُ ثمنها من عرقي ومن دمي. أعرفُ أنّكَ تسخرُ منّي إذ تراني أقلّبُ كتاب الْعَقّاد وتسمعُ معي درويش يشدو أغاني الثورة والمقاومة. معَقّدٌ هذا الآدميُ، يا صديقي، يكابرُ هذا العنيدُ كيْ لا يركبَ قطار التطويع السّريع المفضي إلى صفقة القرن وصفعة ما بعد الحداثة…

أيها الموتُ الشّقيقُ حسبُكَ… أعرفُ أنّكَ تترصدُني مُذْ سمعت صيْحتي في بطن الحياة. لم  تدرك كيف مرّ الزمنُ سريعا. كبُرَ الطفلُ وتعلّم العيشَ بين الأحياء/ الأموات، يراوغُ الحتفَ وغدر الوقت بدون سلاح…

البارحةَ خطفتَ قلبا نيّئا من بين براثن الصّمت، فسرنا خلفه إلى مدينتك البيضاء التي بنيت قاب قوسين من مدينة الأحياء. رجعنا نجرعُ خسارتنا في المعركة وفي الحرب سواء…

أيها الموتُ كُن رفيقا بي وأنت تُجهزُ على بصيص العيش بين عروقي، لا تُشمِتْ بي آمالي العريضة. كُنْ رحيما وأنت تُشيّعني إلى هزيمتي الأخيرة …

وكأنّها هُنيهة، هذه الحياةُ، وأنتَ تسيرُ معي لصيقا، خطواتكَ أسمعها ترنُّ أجراسَ الرّحيل…

لكن، يا صديقي الموتُ، نحنُ نهزمُكَ في كل يوم وأنت تحصدُ النّفوس، نحسَبُ أنكَ تقبضُ كلّ الأرواح إلّا تلكَ التي تسكُنُ بينَ جنبينا؛ فالموتُ لا يعنينا إذ يُصيبُ غيرنا في مقتل…

نهزمُكَ إذْ نحتسي القهوة السّوداء نكاية في أكفانكَ البيضاء…

في كلّ مرة تنتزعُ من بين صدورنا بعض الدّم الحيّ وكثير من الذكرى، نبني الأملَ أن البقاءَ أقربُ من حبْل الغُروب…

يا تُرى هل هذه آخرُ الكلمات أكتبها لك قبل أن يحين الوقتُ اليقيـــــــــــــــــــــن…

أم عساكَ تُمهلني قليلا، أرعى بعض شؤوني الدّنيوية وأقضي بعضَ الدُيون …

سأعيشُ هذه الحياة وكأنها صفحات سِفْرٍ أقلّبها في مكتبة السّفَر، سفرٌ منكَ وإليْكَ…

أيّها الموتُ الشّقيقُ لم تعُد تخيفنا، وما عُدتَ سرّا نخفيه عن الأطفال، فأنت لستَ من عادتكَ الإختيار..

في المشفى أعِلاّءٌ اشتاقوا لكَ، وأنت تأبى إلّا أن تخطف من بستان الصّبا، وتلك حيرةُ القرار…

حبّة قبل النوم وأخرى في الصباح، قال الطبيبُ، وما من شفاء منكَ إذا أقبلتَ من غير ميعاد أيها القهّار…

هلْ أخذتني سنة من النوْم، أم هو نَصَبُ العيْش يوصدُ عينيّ عنكَ وأنتَ جليسي في الغداة والرّواح، فسار بي الباصُ بعيدا عن محطّتي الأخيرة عندَ مُفترق الطُرُقِ.

يا صديقي القريب، لا تنسَ أن توقظني من غفوتي وأنت تأخُذُني معك إلى هناكَ أينَ لا مَفَرّ_ حيتُ قد يطولُ بنا المُستقر…

حينها سأخبرُكَ بكلّ شيء_ كل شيء، حينها لن تحتاج إلى أيّ قناع … فالحقيقةُ هناك َ شمسٌ وكل الغرابيل، والغرابين، إلى زوال ….

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
Jihad
المعلق(ة)
24 أبريل 2022 11:03

كتابة جميلة هي السهل الممتنع تجعل الموت قريبا وبعيدا منتصرا ومنهزما تارة طبيعيا وتارة متناقضا .

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x