2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
بُـــؤْس المــــــاضي

ورد في “لسان العرب” أن “ماضوي” اسمٌ منسوبٌ إلى ماضٍ على غير قياس، و المعنى أنه حينما يُقال عن رجل إنه ماضَوي فهو ميّالٌ إلى تمْـجيد الماضي و الإهتمام به بصورة مبالغ فيها.
لقد كانت الطبيعة “الماضوية”، على الدوام، شعارا مركزيا للمجتمعات العربية و من يكون قد تأثر بثقافتها من المجتمعات الأخرى، بسبب الإحتكاك و الإتصال، المنتمية للأمم المختلفة.
و هكذا تشكَّلت بداخل هذه المجتمعات نزعة ميّالة إلى الماضي و تربَّت الأجيال المتلاحقة على اعتبار الماضي في مقام الفردوس المفقود الذي يجب العمل على استعادة أطواره بأي سعر و بأية طريقة!
إن الحنين إلى الماضي طبيعة متأصلة في الإنسان و ملازمة للبشر، فالإنسان دائم التمجيد لوقائع الماضي رغم أنها ليست، بالضرورة، وقائع إيجابية من منظور العلم و المنطق، بل إنها قد تكون سيئة بهذا المنطق، لكن ذلك لا يمنع الإنسان من تصويرها في مخيلته الجمعية كأحداث نورانية لا تحمل في باطنها أي سوء أو إساءة.
عبر هذا المنطق المنحرف و التحريفي، جرت “مأسسة” النزعة الماضوية و صارت بذلك أسلوبا معتمدا لدى الجميع، أفراداً و مؤسساتٍ، و هكذا نَدُرَ أن تصادف أحَدَهُم و يبدأ الحديث دون أن يشرع في تعداد مزايا الماضي و “فضائله”، و الطَّعنِ في الحاضر و “مساوئه”، حتى إن الدولة ذاتها، التي حباها القانون شخصية معنوية، عبر مُمثليها، لا تتورَّعُ أبَداً عن الإنخراط في مسلسل تمجيد الماضي و تصويره كجنَّةٍ للعالمين.
حينما تتحول الماضوية، بالتعريف الذي قدمه “لسان العرب”، إلى ثقافة سائدة لدى العوام و النُّخب، فإن الأمر يصير حينئذ داءً عُضالا يستوجب تدخلا علاجيا مستعجلا، فإذا كانت النخب المثقفة، بما تحمله من شعارات “تقدمية”، لازالت رهينة الماضي و أساطيره، فكيف تعيب هذه “النخب” المزعومة على التيارات الدينية ارتباطها العضوي بالماضي و تُنكر عمل هذه التيارات وفق قاعدة الرجوع إلى الماضي و إعادة إحيائه على أساس شعار مركزي هو العودة إلى الإسلام في عصر النبوة؟
إن مشاكل التخلف الفكري، الإقتصادي، الإجتماعي و العلمي، التي تعانيها منها المجتمعات العربية يجب النظر في أساليب و مناهج مُعالجتها انطلاقا من إحداث قطيعة “ابستيملوجية” حقيقية مع الأساطير المؤسسة لثقافة الماضوية، و في طليعتها الكفُّ عن النظر إلى الماضي، أيِّ ماضٍ كيفما كانت طبيعته، و كأنه المخلص و المنقذ من “شرور” الحاضر، و هذا فعلٌ باستطاعته خلقَ وعيٍ جديد يُساهم في إحساس الإنسان بوجود مشكلة حقيقية عنوانها : الإهتمام الباطل بالماضي.
إن الوسائل الأساسية لإحداث القطيعة مع هذا الماضي الشبقي، كما هو واضح من تجارب الأمم المتحضرة، هي العمل على تنمية المهارات العقلية و العلمية،كالتفسير و التحليل و التدقيق في خبايا الأمور بمنظار العلوم الحديثة، و ذلك لا يحصل صدفةً، بل باعتماد مناهج تعليمية كفيلة بتحقيق و تنمية وعى الأفراد تجاه المستقبل، فتنمية الوعى بأهمية المستقبل، يجب أن يُدرج كهدفٍ من أهداف السياسة التعليمية في مختلف أطوارها و أسلاكها .
مما يُنسَب لأحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية قوله بأن ” كل من يتساءل منا كيف سيكون هذا القرن عليه أن يجد الجواب عن سؤاله في الفصول الدراسية الأمريكية” .
المناهج الدراسية في بلاد الأمريكان تهتم بزيادة الوعي بأهمية التفكير في المستقبل و رفع مستوى الوعي المستقبلي لدى المتعلمين و الكتمدرسين، أما في الدول المتخلفة، وفي طليعتها الدول العربية، فهي تعمل على تكريس مناهج ماضوية بئيسة لن يكون من شأنها إلا إنتاجُ مجتمعٍ موغِلٍ في بؤس الماضي.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.