2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

عادل بنحمزة
“عندما يسرق الفقير يدخل السجن، وعندما يسرق الغني يصبح وزيراً”
(لولا داسيلفا)
“دعمي للولا ليس انتماءً. بل هو دعمي للبرازيل التي أحلم أن تكون للجميع، شاملة، كريمة، من دون جوع ومن دون بؤس، مع تعليم وصحة جيدين وتنمية مستدامة”. بهذه التغريدة أعلنت السيناتور سيمون ثابت ذات الأصول اللبنانية التي جاءت في المرتبة الثالثة في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية البرازيلية بخمسة ملايين صوت، دعم لولا داسيلفا في مواجهته الحاسمة نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الجاري مع الرئيس اليميني الحالي خافيير بولسونارو.
يعود الرئيس البرازيلي الأسبق إلى قمة المشهد السياسي في بلاده، بعد سنوات من المحاكمات والسجن في حملة انتخابية طويلة، يعود داسيلفا كطائر الفينيق في الميثولوجيا الإغريقية مرشحاً فوق العادة للعودة إلى رئاسة البلاد. في نهاية نيسان (أبريل) من السنة الماضية، أطلق سراح أيقونة اليسار البرازيلي، إطلاق السراح جاء ضمن تعديلات قانونية استفاد منها نحو 5 آلاف سجين، من بينهم داسيلفا الذي حوكم بتهم فساد، لكن لجنة أممية لحقوق الإنسان خلصت هذه السنة في تقرير لها إلى أن محاكمة الرئيس البرازيلي الأسبق، لويس لولا داسيلفا، انتهكت حقه في محاكمة عادلة، وحقه في الخصوصية وحقوقه السياسية. فمن يكون هذا القائد الذي أعاد الاعتبار للسياسة في بلاده واستطاع أن يواجه الأطماع الأميركية التقليدية في أميركا اللاتينية، ويجعل من البرازيل قوة اقتصادية وعلمية صاعدة؟
من ماسح أحذية في شوارع ساو باولو، إلى رئيس نقابة عمال الحديد، ثم إلى رئيس لثامن قوة اقتصادية في العالم، إنه الأسطورة لولا داسيلفا زعيم حزب العمال البرازيلي الذي قاد البلاد من 2003 إلى 2010. عرف داسيلفا بإصراره الكبير، بداية من هزمه ظروف الفقر التي عاش في ظلها ضمن أسرة تخلى فيها الأب عن مسؤوليته فكانت الأم هي السند الوحيد، إلى مختلف المعارك التي خاضها في حياته السياسية والنقابية، يكفي أن “لولا” قبل أن يصبح رئيساً للبرازيل، سبق أن خسر معركة الرئاسة ثلاث مرات سنوات 1989 و1994 و1998، لكن في كل انتخابات ورغم الخسارة، كان حزب العمال يعزز موقعه بثبات في المعارضة إلى حين اكتساح الرئاسة بأزيد من 60 في المئة من الأصوات.
“لولا” واحد من قادة اليسار في أميركا اللاتينية التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها دائماً حديقتها الخلفية، كان وراء تأسيس منتدى ساو باولو لتجمع قادة اليسار في أميركا اللاتينية بعد انهيار جدار برلين، هذا التجمع الذي سيحوّل عدداً كبيراً من دول المنطقة، إلى قلاع لليسار في وقت عرف فيه اليسار تراجعاً كبيراً على المستوى العالمي.
تعيش البرازيل منذ سنوات تحت رحمة اليمين المتطرف، في محاولة لاستنساخ ظاهرة دونالد ترامب، فالرئيس الحالي بولسونارو جاء إلى سدة السلطة على وقع احتقان سياسي خطير، وقوده أزمة اقتصادية واجتماعية، وأدواته الحاسمة ملفات جنائية على خلفية افتضاح ملفات فساد ورشى وتبييض أموال مسّت عملاق قطاع النفط البرازيلي (بتروبراس)، والأخطر من ذلك أنها مسّت شخصيات سياسية واقتصادية بارزة، وكان على رأس المتهمين فيها الرئيس السابق للبلاد الزعيم اليساري الظاهرة لولا داسيلفا، بشكل يعيد إلى الأذهان أزمة الفساد التي عجّلت برحيل الرئيس الأسبق فيرناندو كولور ميلو سنة 1992 والتي كان لولا نفسه واحداً من مؤيدي عزله.
البعض رأى في ملاحقة لولا قضائياً استمراراً للتطور الديموقراطي والاقتصادي الذي عرفته البرازيل منذ صعود حزب العمال إلى السلطة بوصول داسيلفا إلى رئاسة البلاد، بينما رأى آخرون في ذلك مجرد مؤامرة تستهدف بالدرجة الأولى حزب العمال الذي استطاع أن يحافظ على حضوره الانتخابي والسياسي، معتمداً على حجم الإنجازات الكبيرة التي تحققت في عهد داسيلفا منذ 2003، بخاصة على مستوى تقليص نسبة الفقر والفوارق الطبقية، إذ تغير وجه البرازيل من كونها فقط بلاد كرة القدم ورقصة السامبا، إلى عملاق اقتصادي وتكنولوجي صاعد منذ عودة الجيش إلى الثكنات سنة 1985 في واحدة من تجارب الانتقال الديموقراطي في أميركا اللاتينية، ليصبح الاقتصاد البرازيلي ثامن اقتصاد عالمي وأحد أعمدة دول البريكس (BRICS) التي تضم إلى جانب البرازيل كلاً من روسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا.
ديلما روسيف التي خلفت الرئيس لولا في رئاسة البرازيل، وصلت إلى رئاسة الجمهورية في ما يشبه التعيين، لأن الأصوات التي تحصلت عليها هي في الواقع تعود للزعيم لولا الذي حافظ على نسبة شعبية عالية وهو يغادر السلطة، سعت روسيف إلى حمايته من المتابعة القضائية، وذلك بتعيينه رئيساً لديوان الرئاسة، وهو منصب وزاري يمنحه الحصانة، لكن ذلك التعيين أُبطل من طرف القضاء، بل إن قاضي التحقيق عمد إلى نشر مكالمة سرية بين لولا وروسيف حول تفاصيل ذلك التعيين الذي لم يتم.. ما يؤكد أن الموضوع أبعد ما يكون من تحقيق يرتبط بالفساد إلى ما يشبه انقلاباً على تجربة اليسار في البرازيل.
تحريف مسار التحقيقات والخروج بالملف عن مساره القضائي، جعلا الموضوع مجالاً للانقسام في الشارع البرازيلي، في بلد ما زال فيه لولا داسيلفا يمثل أسطورة تعيد إلى الأذهان ما سبق أن عرفته فنزويلا مع الرئيس السابق هوغو تشافيز، بالطبع مع فارق كبير في ما حقق كلا الزعيمين لبلادهما.
إدخال داسيلفا السجن تزامن مع ظروف اقتصادية صعبة خسرت فيها البرازيل دفعة واحدة 4 نقاط في معدل النمو، كانت لها عواقب وخيمة على أهم وأكبر قوة في أميركا اللاتينية، وتزامن خروجه مع انحسار دور اليسار في أميركا اللاتينية، فهل يستطيع داسيلفا إعادة الحياة إلى منتدى ساو باولو، وبالتالي بعث الروح في اليسار لمواجهة الهيمنة الأميركية في المنطقة، بخاصة بعد العودة الواسعة لليسار في أميركا اللاتينية؟ وهل ينجح في سابقة من نوعها في العودة إلى كرسي الرئاسة في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الحاسمة نهاية هذا الشهر، بعدما أضاع ذلك في الجولة الأولى؟
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.