2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

يميل الإنسان في غالب الأحيان، دون غيره من “الحيوانات الفقرية و اللافقرية”، إلى النقد و التعليق على مختلف الظواهر الإجتماعية و البشرية التي تتراءى له على أرض الواقع أو يعتقد أنه يراها فعلا. وهذه خاصية بشرية فريدة لا يشاركه فيها أحد.
الظواهر الإجتماعية التي يشاهدها الجميع وتعلن عن نفسها أمام العموم دون مواربة، لا تستقطب اهتمام عامة الناس من رعاع البشر، فذلك اهتمام تنحصر دائرته في فئة محدودة من الأفراد ممن يفقهون في مناهج الدراسة و أوتوا من العلم ما يؤهلهم للخوض في دراسة و معالجة تلك الظواهر.
لكن الإنسان، لاسيما في عالمنا المنتمي لما قبل الحداثة، و بسبب طبيعته التي “لا يعجبها العجب و لا الصيام في رجب”، اعتاد على اختلاق التهم الباطلة في مواجهة شقيقه الإنسان و على صناعة أحكام غير معللة وخلاصات متهافتة في مواجهته، لأنه، و بكل بساطة، يحب التخلص من الخوض في ماهية الأشياء و النظر إليها بعين الفحص و التحقيق و بمنظار البحث و التدقيق.
من أمثلة الأحكام غير المُقنعة التي اعتاد بعض الناس إصدارها دون سابِق بحْث، تلك المتعلقة بإطلاق أحكام، هي فارغة من أي محتوى معقول و خالية من قواعد المنطق المعلومة لدى الجمهور، أحكام يصدرونها في مواجهة أفراد آخرين فقط لأن هؤلاء اختاروا، أو ساقهم القدر المحتوم لامتهان حـرفة تُـدعى “الكـــــــتابـــة”.
لقد جرى العُرف في بلاد العرب منذ زمن ليس بالقصير على أن يوصف أحد الكُتّــاب من قبل إخوانه، أو منافسيه، في ” حرفة الكتابة” بكونه “كاتبا مأجورا”، معتقدين و موهِمين الناس بأن وصفا كهذا دليل قاطع و برهان ساطع على وضاعة ذلك الكاتب و تبوئه الدرك الأسفل في سلم الكتابة، بحيث يتوهم هؤلاء الكتاب الواصفون أنه من العيب الذميم أن يكون الواحد شخصا مأجورا.
في هذا الموضوع لا بد من التذكير بأن “المأجور ” هو اسم مفعول من فعل “أجر” و أن الأجرة ” قيمة تدفع مقابل خدمة” و أجر يأجر أجراً و إجاراً فهو آجر ، و أجر الله المؤمن أثابه، و يقال: أجّر فلان قلمه أي استعمله لخدمة هدف معين أو شخص بذاته مقابل عائد مادي.
الظاهر من معتقدات أولئك الذين يحاولون الانتقاص من مكانة زملائهم الكتاب عبر وصفهم بالمأجورين، وهي أوصاف تستحق الوصف بالسخافة و الضحالة، أنهم لم ينالوا من قواعد اللغة العربية إلا النزر اليسير، فالحكم على أحدهم بأنه كاتب مأجور بغية النيل منه و بنية إلحاق الضرر الأدبي به، تصرف مُنافٍ لقواعد المنطق السليم و بعيد، نتيجة ذلك، عن مقتضيات الوصف الحكيم، فالكتابة في النهاية عمل و فعل كغيرها من الأعمال و الأفعال، و مادامت كذلك فالأجر في هذه الحالة يعتبر من لوازمها بمنطق التبعية و بمنطق الشيء و لزوم الشيء، ولا يمكن و ليس من الجائز اعتبار الأجر عِلَّـة معقولة لوصف كاتب بكونه دون غيره من الكتاب، فالأجرة من توابع الكتابة و لوازمها، و لا يُتصَوّرُ من جهة المنطق و العقل أن يعمل أحدهم دون أن ينال أجرا عن ذلك، و إلا عُـــــدّ في عداد الحمقى و المجانين.
إن “التناقض” و “الصراع” بين الكتاب، و بين سواهم من غير الكُتّاب أيضا، أمرٌ محمود و سُنّةٌ مرغوبة، لكن ذلك لا بد أن يتم بالإعتماد على معايير الكفاءة و الأهلية و ليس بمعيار حضور الأجر من عدمه، لأن الأجر من لوازم الكتابة، وخير ما نختم به قوله تعالى في سورة الزمر “وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ” .