2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

قد تكون أنظمة الحكم التي عرفتها الشعوب، والأحداث الكبرى التي عاشتها وطبعت حياتها، والتوجهات الفكرية والعادات والتقاليد التي سادت خلال مراحل من تاريخها، مصدر تقدمها وازدهارها، وبفضلها تحقق خطوات نوعية في مسار البناء والنماء، كما قد تشكل أثقالا وترسبات تعيق نهضتها وتقدمها وتكبل حاضرها وترهن مستقبلها.
و لاريب في أن معرفة تاريخ الشعوب يمكننا من تسليط الضوء على واقعها وتفكيك شفراته، ويسعفنا في تشخيص إشكالياته ومن تم وضع اليد على المعيقات التي شلت وتشل ديناميته. وإن المتتبع لتاريخ المغرب قديمه وحديثه يدرك ما كان لمختلف العوامل والتوجهات الفكرية من أثر ووقع، سواء منها تلك التي كانت تمرر باسم الدين أو تحت يافطة العادات والتقاليد، في إخلافه الموعد مع الحداثة، وانعكاس ذلك على مدى رسوخها واستمراريتها في حاضره ومستقبله.
يتفق أغلب الدارسين والباحثين على أن المغرب احتل إلى حدود القرن السابع عشر مكانة هامة ومتميزة على مستوى العلاقات الدولية، وهو ما أهله ليصبح فاعلا قويا وقطب جذب في ميزان القوى الدولي، وقد حاز في بعض المراحل من تاريخه رغبة دول رائدة في التحالف والتعاون معه، كطلب صلاح الدين الأيوبي باسم الخلافة العباسية الدعم العسكري البحري من المنصور الموحدي ضد الهجمة الصليبية على فلسطين، مما يدل على أن المغرب كان قوة بحرية هامة؛ وطلب بريطانيا، التي ستصبح فيما بعد إمبراطورية مسيطرة على البحار وعلى النظام الدولي، التحالف مع السعديين لمواجهة عدوتها إسبانيا، إلا أنه لم يحسن التعامل مع هذه الفرص الهامة التي أملتها هيبته وفرضتها انتصاراته في مجموعة من المعارك التاريخية، كما أنه لم يستثمر مكانته الاقتصادية المزدهرة نسبيا بالقياس إلى المرحلة، كصناعة السكر التي كانت من أهم صادرات المخزن السعدي.
بعد مرحلة الازدهار هذه سادت فترة من الجمود والتقهقر شملت جميع المجالات، وامتدت حالة النكوص والانكماش على الذات لتمس الفكر المغربي، الذي أضحى رافضا للحداثة والتحديث، ولم تسلك البلاد سبل التصنيع التي كانت ثمرة الثورة الصناعية التي انطلقت من إنكلترا، مما جعل المغرب يعيش مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فترة مضطربة من أحرج فترات تاريخه، وهي التي تميزت بتسارع الأحداث وتلاحق الوقائع. فعلى المستوى الداخلي تدهورت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، وهو ما تجلى في علاقة المغرب بالخارج التي أضحت تحت رحمة أطماع القوى الإمبريالية الراغبة في احتلال البلاد.
وفي خضم هذه التطورات بدأت تتشكل معالم حركة شعبية شاملة، جمعت تيارات عديدة من عامة الشعب ومن أوساط الخاصة والنخبة العالمة، وكان القاسم المشترك الذي يميز هذه التيارات الشعبية هو أنها كانت مدفوعة بإرادة مشتركة تتطلع للدفاع عن الذات وإنقاذ البلاد من السقوط في براثين الاحتلال وإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل فوات الأوان. وقد أفرزت عن هذه التيارات دعوات للجهاد كفعل شعبي تلقائي، أو كفعل متعقل ومنظم بادرت إليه زعامات محلية كالشريف أمزيان وعبد الكريم الخطابي…؛ وهو ما اعتبر في حينه ضرورة حتمية لمواجهة التحديات الخارجية المتعاظمة بسبب اتساع نطاق تغلغل الدول الأجنبية وتنافسها للتدخل في شؤون البلاد، وما نتج عن ذلك من فشل للإصلاحات التي بادر المخزن المغربي إلى القيام بها، وبداية سقوط المغرب في متاهات المعاهدات التي فرضت عليه فرضا مفقدة إياه أسباب ومقومات السيادة ، لتجبره في الأخير على توقيع عقد الحماية سنة 1912م.
في سياق هذه الأوضاع الداخلية المهترئة والساحة الدولية المحمومة، تأتي الدراسة الموسومة بـ«الأوضاع العامة بالمغرب: 1830/1912م» للباحث الدكتور عبد الإله الحداد، كمحاولة جادة لاستجلاء مظاهر وأشكال التطور الذي عرفه المغرب اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا خلال الفترة الزمنية التي اختيرت كإطار للاشتغال، في محاولة للإجابة على اشكالية مركزية تمحورت عناصرها حول الأزمة العامة التي تخبطت فيها البلاد منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وعجلت بسقوطها في براثين الاستعمار وتسلطه، وهي الأزمة التي تم الوقوف عندها من خلال تشريح أسباب ومسببات التغيير الذي طرأ على جهاز المخزن مركزيا ومحليا في علاقته بالمجتمع عموما والنخبة العالمة من أهل الحل والعقد على وجه التحديد، تلك الفئة التي شكلت الاستثناء في مواقفها وحضورها في مغرب الأزمة مغرب القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ولقد كان اختيار الباحث عبد الإله الحداد للقرن التاسع عشر كفترة للدراسة، يتأسس على عدة اعتبارات؛ منها أنه القرن الذي شهد كما هائلا من المتغيرات التي مست معظم جوانب الحياة في تاريخ المغرب ما قبل الحماية، وهي متغيرات وتحولات نتجت في مجملها عن تحرش القوى الاستعمارية ومخططاتها الرامية لاحتلال البلاد عبر تجزئة وتقسيم الوحدة المتجانسة لمكوناته، وتقطيع أوصال روابطها وتفكيك هياكل مؤسساتها الأصيلة.
هذه الدراسة هي محاولة لرسم صورة مُحاكية لواقع الحياة العامة بالمغرب أواخر القرن التاسع عشر وبداية العشرين، عبر إبراز جوانب الصراع بين الفاعلين الأساسيين داخل منظومة المخزن المغربي، من أمراء ونخبة مخزنية ممثلة في القياد الكبار والجيش من جانب، وبين فئة العلماء ورجال الدين والتصوف من جانب آخر، وكل ما أفرزته من مخلفات وما تركته من آثار على المنظومة المغربية في شموليتها، لمحاولة فهم العلاقة التي ربطتهم، وكيف أثرت طبيعة هذه الحياة في البنية المجتمعية، وفي نظم عيش الإنسان المغربي، وانعكاساتها على كل ممارساته الحياتية والاقتصادية والتنظيمية والثقافية.