2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

سعيد الغماز
تحل يوم 16 يونيو 2023 الذكرى الأربعينية لوفاة المرحوم حسن الغماز فقيد أسرة التربية والتكوين بأكادير. وبقدر ما تأثر أصدقاء ومحبي المرحوم بفاجعة الفراق، بقدر ما خلفت الوفاة رصيدا كبيرا من الدروس والعبر مرتبطة بما كان يتمتع به المرحوم من أخلاق فاضلة وحكمة في التعامل وفلسفة في الحياة عبَّر عنها الكثير من المُعَزِّين. لم تكن عبارات العزاء مقتصرة على ما هو مألوف من جمل في مثل هذه المناسبات، وإنما خرجت عن المألوف لتعانق عالم القيم والأخلاق والحكمة في التعامل والدروس في الحياة. الأمر الذي جعل من العزاء مدرسة مفحمة بالدروس والعبر نجملها في النقاط التالية:
-نبدأ بالطبيبة المختصة في الأنكولوجيا التي واكبت علاجه لمدة ثلاث سنوات، والتي عبرت عن أمنيتها في أن يتحلى جميع المرضى بحكمة المرحوم حسن الغماز الذي كان متشبثا بأمل العلاج بشكل مثالي، وينفذ تعليمات الطبيبة بالحرف بل بالفاصلة. وأسرد هنا عبارة الطبيبة كما أفصحت عنها دون تصرف: “une personne que je n’oublierai jamais c’est” وهي عبارة تختزل كل ما يمكن أن نسرده في هذا الخصوص.
-أذكر كذلك عبارات العزاء الصادرة من أقرب أصدقائه، والتي لم تكن مواساة وعزاء فحسب، بل كانت عبارات مليئة بالقيم التي تركها المرحوم وسمو المعاملات التي طبعت علاقاته بمحيطه. وأكتفي هنا بذكر ما كتبه أحد أصدقائه في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الذي قضى معه سنين في نفس المؤسسة قبل انتقاله إلى مدينة أخرى: “خبر صاعق حينما توصلتُ بنعي صديق كان لي في أكادير بمثابة أخ لم تلده لي أمي….أجدد تعازي الحارة في وفاة أروع وأجمل وأصدق صديق كان لي في أكادير…”.
-كانت للمرحوم فلسفته الخاصة في الحياة. ومن بين ركائزها ما يُعرف حاليا بصفر مشاكل في العلوم السياسية. هذا المفهوم الكبير في العلاقات الدولية، كان هو السلوك العادي في علاقاته الاجتماعية. كان دائم البحث عن التوافق مع أصدقائه، دائم الابتعاد عن مصادر وأسباب الخلافات. وحتى إذا أخطأ في حقه شخص ما، كان مبادرا للتسامح ولا يعرف قلبه شيء اسمه الحقد أو العتاب أو مقاطعة من أساء إليه. إنه سلوك مثالي رسخه المرحوم داخل عائلته الصغيرة وفي محيطه الاجتماعي. هو لم يقرأ العلوم السياسية ولكن فلسفة التسامح وسلوك التجاوز كان جزءا من فطرته التي طبعت مسار حياته. فكان كل من أخطأ في حقه، يبحث بكل جهد ليقدم له اعتذاره، لأنه يكتشف بعد ما صدر منه أنه أمام طينة أخرى من البشر تعيش في صداقة صادقة مع الجميع ولا تعترف بسلوك الخلافات والضغائن. وكان المرحوم حسن الغماز لا يجد حرجا في الاعتذار حتى لتلاميذه إن صدر منه سلوك لم يفهم التلميذ مغزاه البييداغوجي. وهو الأمر الذي أكسبه احتراما قلَّ نظيره بين التلميذ وأستاذه.
– لم أعرف شخصا يتمتع فطريا بنكران الذات كما هو حال المرحوم حسن الغماز. يكفي في هذا الخصوص أن أشير إلى ما قام به في فترة كورونا (تَكَتُّمُ المرحوم عن فعله للخير يفرض علي الكثير من التحفظ). فالعلاقة الطيبة التي تركها في نفوس “الحرايفية” الذين استعان بهم في بناء منزله، جعلتهم يلجؤون إليه ليخفف عنهم تبعات الحجر الصحي. وكان المرحوم لا يريد احراجهم بمساعدتهم وكأنه يتصدق عليهم، فكان يعطيهم بعض الإصلاحات في منزله وهو ليس في حاجة لها، ليشعروا أنهم يشتغلون ويؤدي لهم أجرهم بزيادة حسب ما تسمح به ظروفه المادية. كان رحمه الله لا يقبل أن يكون هو وأسرته في رغد العيش والآخر في محيطه يعاني من ضيق الحياة. فكان دائم العطاء أكثر مما هو متعارف عليه في المجتمع، مما جعل رزقه دائم البركة. وكان دائما يردد أنه رغم الإكثار في مساعدة الآخر لم يعرف في حياته فترة كان يعاني فيها من قلة الرزق.
– سلوك الرجل الصادق في صداقاته، والمحب لأصدقائه، والنبيل في معاملاته، جعلت منه شخصية محبوبة، الكل يتقرب منها لأنها تجعلك محاطا بدفء سلوكي قل نظيره، يُبعدك عن أي إساءة أو مجرد خلاف معه. هذا ما جعل فراقه صعب التحمل ليس بين عائلته فحسب، بل بين كل معارفه وأصدقائه. لم يُقدم العزاء بتأثر كبير المقربين فحسب، بل حتى من يعرفه عن بعد أو أدى له عملا ما، حرص على حضور العزاء وعلامات التأثر بادية في محياه وكأنه فقد ابنا أو أخا. حضر جميع “الحرايفية” الذين تعاملوا معه في بناء مسكنه أو تأثيثه أو إصلاحه، حضر النجار والبناء والبلومبيوالتريسيان والبستاني….حضر التلاميذ الذين أعربوا عن الخصال الحميدة التي أخذوها منه، حضر أولياء التلاميذ لأن المرحوم كان محاطا بدفء اجتماعي يجعل علاقات التدريس تتجاوز التلميذ إلى آبائه، وكم من عائلة حرصت على تعليم كل أفرادها على يديه وبإلحاح شديد.
من يعرف المرحوم حسن الغماز يدرك تمام المعرفة أن هذا الكلام لا مبالغة فيه بل هو عين الحقيقة، ونوعية المعزين باختلاف مشاربهم وعبارات العزاء شاهدة على ذلك. هذا ما يؤكده أحد أصدقائه الأستاذ المكي بوسراو الذي أبى إلا أن يكتب مشاعره اتجاه فقدان صديقه وزميله في العمل في أربعينية المرحوم ويبعثها لي لنشرها كعربون فقدان صديق سيظل في ذاكرته إلى الأبد:
” وداعا صديقي حسن.. في أربعينية حسن الغماز”
المكي بوسراو
رحل عنا صديقنا حسن الغماز، أستاذ الرياضيات سابقا بثانوية يوسف بن تاشفين، وغيبه الموت منذ قرابة شهر، لم يمهله المرض اللعين وقتا كافيا لترتيب ما بعثرته السنون ولا الاعتناء بالذات وتحقيق بضع أحلام مؤجلة: سي حسن كان يحلم بالراحة والسفر والاعتناء بحديقة منزله لا أقل ولا أكثر، إنها أحلامه الصغيرة والبسيطة. فلماذا لم تمهله أيها الموت العنيد؟ لماذا هذا الإصرار السادي على معاكسة أحلام الناس؟ وكيف لك أن تتلذذ بالسطو على حياتنا؟
من بين الأماني التي كان يرددها المرحوم على مسامعي باستمرار هي التخلص من العمل، إذ لم يعد يتحمل قيود العمل و تكرار ذاته، وكان مبتغاه هو التمتع بوقته كما يشاء، وهو ما تحقق له إثر حصوله على التقاعد النسبي العام 2019. كان الرجل تواقا إلى السفر بعيدا خارج البلد، استجابة لعشقه الدفين للمغامرة والاكتشاف وتوقه اللامحدود للحرية. إلا أن المرض باغته قبل سنوات ثلاث وعطل كل مشاريعه. ومع ذلك ظل الرجل مصرا على تحقيق طموحه حيث أكد لي مرارا أنه ما زال متشبثا بحلمه، خصوصا بعد تحسن حالته الصحية إثر العملية الجراحية التي أجراها سنة 2020. كنت ألتقي به لاحتساء كأس القهوة ولتقاسم بعض الأفكار والكثير من اقتراحات السفر. القهوة هي المشروب المفضل عنده، فالمرحوم كان مدمنا على التلذذ بنكهتها الباذخة. سي حسن والقهوة قصة عشق طويلة لا يسع الحيز لسرد تفاصيلها. ما زلت أتذكر أنه خلال تلك الفترة، كنت ألح عليك بالعودة إلى مجالسة الأصدقاء الذين كانوا يسألون عنك باستمرار ويتمنون حضورك معهم. كان جوابك بصوتك الهادئ: تمنيت ذلك ووددت لو عدت لمجالستكم والاستمتاع بنقاشاتكم وضحكاتكم الباذخة، لكني لا أستطيع، فجرعات الدواء التي وصفها لي الأطباء مساء تتسبب لي في الكثير من الوهن. اقترحت عليك أيضا السفر معا نحو إحدى الوجهات الأوروبية، وكان جوابك فيه الكثير من الحماس مشترطا تحسن وصعك الصحي. لكن الموت عصف بكل شيء وبعثر حساب الاحتمالات ….
سي حسن، ستظل معنا دوما في جلساتنا التي كنت تصر أيما إصرار على حضورها، وستظل ابتسامتك البهية عنوان انشراحك وعنفوانك. كما ستظل حركة يديك وصوتك الكتوم وعباراتك الشهيرة ” نكونو موضوعيين” و” نقولك أنا…” يتردد صداها في ذاكرة كل معارفك وأصدقائك. كان صديقنا حسن دوما هادئا وكتوما… طابعك المسالم ونزوعك إلى الانصات وحل التوترات بالتي هي أحسن… صنعوا منك إنسانا راقيا، ودودا ومحترما. وهو ما جعل أصدقاءك وأعداءك- إن كان لك أعداء- يكنون لك جميل التقدير.
سلام عليك صديقنا حسن وأنت في عتمة قبرك، سلام إلى روحك النقية، أنت الآن وحدك في صمتك البهي بعيد عن ضجيج الدنيا وزحامها وإغراءاتها وتفاهاتها. ستظل في ذاكرتنا وفي قلبنا إلى الأبد. ونطلب منك المعذرة إن نحن أسأنا إليك يوما ما في معمعة الحياة وفي غفلة منا. عفوا سي حسن، نسيت أنك في قبرك هناك لم يعد بمقدورك الكلام أو العتاب أو الامتنان وأنت ترقد في نومك الأبدي. لماذا تجرأت أيها الموت فخطفت منا أطيب الناس؟ لماذا انت هكذا أيها الموت؟
المكي بوسراو أكادير 05/06/2023″
ختاما نقول إن الرصيد الاجتماعي والسلوك المثالي الذي تركه المرحوم حسن الغماز، هو إرث إنساني يجعلنا نقتفي أثره لتجويد حياتنا، ونعمل على تغيير فلسفتنا في الحياة لا لنكون مثله، فهو أنعم الله عليه بذلك السلوك الفطري، وإنما لنقترب من أخلاقه وكيفية تعامله ونقتفي أثره في البحث عن التوافق ونبذ الخلاف، لنعيش حياة هادئة دون التسبب في إيذاء الآخر. إذا كان المرحوم حسن الغماز يسامح في حقه لمساعدة الآخر، فيكفينا، إن لم نستطع ذلك، البحث عن مساعدة الآخر جهد المستطاع.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.