لماذا وإلى أين ؟

استضعاف العربية وتحدّي الفرنسَة في المغرب

أحمد المرزوقي

تأخذُني الحيرة ويستبد بي العجب، مرّات، حين أخرج إلى الشارع العمومي في بلادي، المغرب، فأرى اللغة الفرنسية باسطةً أجنحتها على واجهات البنايات الحكومية والمصالح الإدارية والمقاهي والمطاعم ودور السينما والمحلات التجارية، إلى غير ذلك من المرافق العمومية والخصوصية، حتى لتظنن نفسك مقيما في مدينة فرنسية.
وحتى قبل أيام، لمّا كنت أتابع مباراة النادي الأهلي المصري والوداد البيضاوي برسم نهائي أبطال أفريقيا، لاحظت أن اسم مركب (استاد) محمد الخامس مكتوب باللغة الفرنسية أولا، ويليه بالعربية ثانيا، وكأن المسؤولين يسلّمون بكيفية ضمنية أن لغة فولتير تعلو على لغة المتنبّي.
وحتى لا تُفهم هذه الملاحظة بشكل غير دقيق، أشير إلى أن تعلم اللغات الحية هو من أوجب الواجبات على شبابنا المغربي الناشئ، ولكن بشرط واحد وأوحد، أن يتقنوا لغتهم الأم أولا، فيتكلموها بطلاقة، كما تتكلم الشعوب المختلفة لغاتها، وذلك من دون أن نطالبهم بأن يكونوا فيها ضليعين ومبرزين.
أجل، تعلم اللغات الحية، وخصوصا الإنكليزية منها (أصبحت اليوم بقوة الأشياء لغة العلم والمال والأعمال)، هو مفتاح للتواصل مع أمم كثيرة، قصد الاطلاع على حضارتها وتقاليدها للنهل من كل ما هو إيجابي فيها. ويؤكّد علم النباتات لنا أن الشجرة حين تلقم بعود أجنبي عنها تعطي ثمارا لذيذة في الطعم ووافرة في الحجم. ونحن لا نكره أن يكون للإنسان العربي عقل، مثل عقل سيدنا سليمان، فيُتقن جميع لغات البشر ويتعلّم حتى منطق الطير. أقول هذا كي لا أتّهم بالانغلاق والتعصب.

وليس لدي شخصيا أي ضغينة أو عداوة مع اللغة الفرنسية، بل على العكس، أحترمها وأقدّرها وأعترف أنها كانت لغة فلاسفة عصر الأنوار الذين أحدثوا قطيعة مع العالم القديم ومعالمه المرتكزة على الاستبداد والفكر الخرافي. وأكاد أزعم أني أتكلمها بسهولة وأكتب بها بطلاقة. غير أن ما يحزّ في قلبي ويجعلني أتساءل دائما بكثير من الحسرة والمرارة، هو بأي وصفة سحرية استطاع رجل فرنسي واحد، اسمه المارشال ليوطي، أن يفعل بنا كل هذه الأفاعيل، فينجح كل هذا النجاح الباهر في طمس ركن أساسي من أركان هويتنا، وهي لغتنا الأم، فيجعلها في الدرجة الثانية خلف لغة بلاده.
لقد مرّ على استعمار فرنسا للمغرب 111 سنة بالتمام، وما زالت الفرنسية لغة النخبة الحاكمة، تتحدّث بها في حياتها العامة والخاصة، وتستنكف أن تتحدّث بالعربية لاعتقادها أنها لغة الجهل والتخلف، حتى لترى الواحد من هذه النخبة المتعجرفة إذا ما اضطرّ للقيام بعرض رسمي بلغة بلاده أمام البرلمان أو في محفل دولي، يتهجّى كما يتهجّى أطفال القسم التحضيري، فيُتأتئ ويفأفئ بورقةٍ ترتعش في يده والعرق يتصبّب من جبينه بشكلٍ يثير الاستهجان أكثر مما يثير الشفقة.
وفضيحة وزير التعليم المغربي الأسبق خير دليلٍ على ذلك، حين تلكأت كلمة “المتوَّجين” بين شدقيه، فتمنّعَت أن تخرُج، فنطقها أولا “بالمتوجّة، (بتشديد الجيم) والمتوجين والمتوجين الجدد، وبعض قدماء المتوجين الذين…” (ذلك كله بتشديد الجيم وكسره) إلى أن منّ الله عليه بالفرج فنطقها سليمة في المحاولة الخامسة، حيث تنفس الصعداء، وحمد التعليم المغربي ربه لكون المسؤول الأول عنه لم ينطق لسانه المتدرّب على اللغة الفرنسية بما هو أدهى وأمر. والطامة الكبرى أن مثل هؤلاء يجدون من يهنئهم ويصفّق لهم وكأنهم وزراء فرنسيون خطبوا على المغاربة بعربية عرجاء، ليشكر لهم تواضعهم وتسامحهم معهم على ما اعترى خطابهم من زلّات وهِنات. بل الأدهى والأمر أنه يوجد من بين تلك النخبة من يفتخر بجهله المطلق بلغته، فتراه إنْ تحدّث بها يتصنّع الأخطاء، ومن حوله يصحّحونها له وهم منه يضحكون، وهو يشاركهم ضحكهم وفي نيته أن يضحك عليهم.

وإني لأذكر أنه، في نهاية الستينيات، وأنا ضابط صغير أزاول وظيفة التدريس في مدرسة عسكرية لتكوين ضبّاط الصف، أن اللغة الفرنسية كانت (وما زالت) هي التي تأتي في الصدارة، فقد كان عناصر الجيش المغربي وضباطه يتكوّنون ضمنيا من أصناف عدة. أولها النخبة الخالصة المتكوّنة من خرّيجي مدرسة الضباط “سان سير” الفرنسية. يليه خرّيجو الأكاديمية العسكرية في مكناس (المسمّاة مدرسة الدار البيضاء)، ثم يأتي الصنف المسمّى “الزونار” أي المنطقة الشمالية، ويقصد بذلك المتخرّجون من مدرسة طليطلة الإسبانية. ثم المتخرّجون من المدارس العسكرية العربية، كمصر وسورية والعراق، وهؤلاء كانوا يُنعتون بكيفية قدحية من نخبة الضباط الفرانكوفونيين بالفقهاء، بمعنى أنهم درسوا الفنون الحربية باللغة العربية، وهذه اللغة، في نظر المستهزئين منها، لا تصلح إلا لدراسة الفقه ومتون الأجرومية وابن عاشر (فقيه مغربي مالكي). وفي النهاية صنف “الصاعدين من البردعة” وهم الأميون الذين تدرّجوا رويدا رويدا في مراتب الجيش، حتى بلغوا رتبا سامية. وأعتقد أن الأمر تغير اليوم، ولم تعد أغلبية من في الجيش لا تتخرج إلا من أكاديمية مكناس، وبتأهيل عسكري فرنسي صرف.
حصل لي، قبل أسابيع، أن ذهبت إلى الترحم على بعض أفراد عائلتي، كانوا قد توفّوا في خضم جائحة كورونا، ودفنوا في مقبرة موجودة في حي للأغنياء، حيث معظم القبور تحمل أسماء عائلات معروفة بنفوذها وغناها، وتتنافس من حيث الفخامة والإبداع، وكلها مبنية بالرّخام الأبيض الشفاف، فهَالَنِي، وأنا أتنقل بين ممرّاتها أن أقرأ على بعض الشواهد عبارات ترحّم كتبت باللغة الفرنسية. فقلت في نفسي، حتى في مثوانا الأخير تُلاحقنا أيها الجنرال؟ فبماذا أدّى هؤلاء المتوفون شهادتهم إن كانوا قد وجدوا متسعا من الوقت لتأديتها، هل بلغة محمد صلى الله عليه وسلم أم بِلغتك؟ أتمنّى ألا أكون مخطئا لو سألتُ علماءنا الأجلاء إن كان يجوز للغة الفرنسية أن تزاحم زميلتها العربية، حتى على شواهد أجداث المسلمين في بلاد العرب؟ أم أن الجواز مستحبٌّ إن كان أصحاب تلك القبور من حاملي الجنسيتين، المغربية والفرنسية؟
ومن الطرائف أني جلست يوما في مقهى حديث البناء، وكان فاخرا ويحمل اسم “الإيليزي”، فسألت مالكه لماذا لم تطلق عليه اسما عربيا؟ فأجابني وعلى وجهه علامة امتعاض: أتريدني أن أسميه مقهى “النحلة”، فيغشاه الدبابير والحشّاشون؟

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

7 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments
حميد بلحسن
المعلق(ة)
27 يونيو 2023 16:01

اين نحن من المذكرة التي تمت صياغتها في عهد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي حينما كان وزيرا أولا وتم تعميمها على جميع الإدارات العمومية باعتماد اللغة العربية في كل المراسلات وفي الإدارات الحكومية وفي الاجتماعات الرسمية للمملكة التي تمثل الهوية المغربية ودستور المملكة صريح في هذا الشأن أحسنت القول استاذ احمد مودتي وتقديرى

Dghoghi
المعلق(ة)
27 يونيو 2023 11:56

ان الذكرى تنفع لمن اراد ان يتذكر..
لذا تدكرت ما قاله عالم الاجتماع.. ابن خلدون . .مند زمن بعيد..
“اذا عربت خربت واذا خربت لن تسكن ولن يسقط المطر… وبهذا انت لا اقصد اللغة العربية. لكنها دخيلة …وتقبلها المغاربة.. برحب لانها لغة القرأن كما يقولون فقهائهم وشيوخهم.. على فاللغة الامازيغية هي الأولى لا جدال فيها.. بعدها مرحبا باي لغة ..انجليزي فرنسي اسباني وووو… نحن ابناء العالم ومسايرة العصر ومتطلباته.. اضحت حق من حقوقنا…..

يوسف
المعلق(ة)
27 يونيو 2023 02:36

صدقت أستاذ المرزوقي.

عمر
المعلق(ة)
27 يونيو 2023 00:55

ممتاز أستاذ أحمد، هكذا عهدناك، دمت منألقا، ولغتك التي كتبت بها من حيث المعجم، والتركيب، والأسلوب دليل على حبك للغة هي هويتنا، ولا يزايد أحد عليك في ذلك، فأنت لم تهن لسانا من الألسن خلقها الله، بل أكدت على الأولى فالأولى، وللسان الأمازيغي والدارج مكانها كذلك، لكن قصدك بين واضح حفظك الله. وأنا أمازيغي أبا عن جد، واللغة العربية نهمي، ومحبوبتي، وسل الأمازيغ الأحرار الشرفاء عن لغة القرآن، فهم أئمة فيها، كتبوا علموا بها وألفوا بها وفيها، وهم مراجع إلى اليوم في العالم فيها، وأنا كما قلت أمازيغي وتخصصي في الدكتوراه اللغة العربية نحوا وصرفا وبلاغة، أي اللسان يأت، ولا أمتعض كما لا أستحيي من الإعلان وبشرف عن حبي للعربية كما أحب سائر الألسن، وما بضيرني والله خلقها، وإنما الأمر كما ذكر أستاذنا أحمد.أخيرا تحية للأستاذ أحمد من محب له في جنوب المغرب.

من مراكش
المعلق(ة)
27 يونيو 2023 00:00

في البوادي كانت اللهجة قريبة للغة الفصحى وبعيدة عن المصطلحات المفرنسة ،وهذا قبل انتشار اللهجة المهجنة عن طريق المسلسلات بالتلفزة ،ومن يدعي أن اللغة العربية ليست لغة ام للمغاربة جاهل أو يتعامى وكسول في أيام صباه لأن حتى مصطلح دارجة مصطلح عربي معناه منتشر ومتعارف عليه ومعروف ،اللغة العربية لغة غنية وقوية والعودة إلى الأصل هي خلاصنا من التشوه الهواتي أما بالنسبة الامازيغ فهم احرار في اختيارهم بخصوص اللغة هذا الموضوع يخص العرب فلا داعي لتدخل الشوڤين المتعنصرين

احمد
المعلق(ة)
26 يونيو 2023 12:39

يا اخي مسالة اللغة مسالة حظارة، وسيادة لغة لا تكون بالتمني او بالترويد على نطق لغة الام اونشرها في كل مكان، ويوم كان العرب اسياد العالم في العلم والمعرفة والثقافة، كان الاجانب يتهافتون على لغتهم، ومن عجاىب ذالك الزمان ان السربون في فرنسا كانت تدرس الطب بالعربية وكان الاجانب يتوافدون على الاندلس لاكتساب العلم في جامعاتها، وبعد ان انقلب الدهر على المسلمين انتقل العلم الى اروبا فاصبحت لغة الغرب هي المطلوبة، واصبحت الفرنسية وسيطا بيننا وبين الانجليزية لمواكبة المعرفة، ولم يصن عربيتنا من الافول الا القرآن الذي ضل يدرس في المساجد والمدارس العتيقة الشيئ الذي نقل العربية الى المدارس بمجهود بعض الدول كلبنان ومصر التي كانت تطبع الكتاب المدرسي للدول العربية. لكن تلك العربية رغم لسانها العربي لم تكن عبر لغة الصحافة إلا ترجمة للانجليزية السائدة في المشرق او للفرنسية السائدة في المغرب الكبير، ترجمة في جل تراكيبها وصورها البلاغية، واليوم وقد بدأت معالم الحظارة تنتقل الى أسيا ستصبح الصينية واليبانية هي لغة العصر الموالي، فاين نحن من كل هذا،وقد تدهور مستوانا التعليمي ليس في العربية فحسب بل حتى في

فريد
المعلق(ة)
26 يونيو 2023 09:20

العربية ليست هي اللغة الأم للمغاربة، الدارجة والامازيغية هما اللغات الأم للمغاربة. العربية كما الفرنسية لغة دخيلة لا أحد يستعملها في حياته اليومية.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

7
0
أضف تعليقكx
()
x