لماذا وإلى أين ؟

متحف الحضارة بمصر

د. خالد فتحي

سأترخص إذنا من المرشدين السياحيين، وأصنع كصنيعهم، فمارأيته بمتحف الحضارة بمصر يلح علي إلحاحا كي أنقلكم معي بخيالكم إليه. فإذا كانت الأشياء الجميلة تحثك دائما على أن تتقاسمها مع الآخرين، ليتذوقوا ما تذوقت من رقي وبهاء، ويحسوا من الجمال ما أحسست، فما يتبقى لك إذن لتصنعه أمام صرح شيدته مصر، فأتى أجمل من الجمال غير ان تقدم شهادتك عنه، ثم تمضي غير مقتنع أنك قد بلغت الوصف . .. ،فمتحف مصر الفريد هو بدون نظير. ولا أتوقع أبدا أن يظهر ثان له بمثل زخمه على الأرض في المستقبل البعيد. إنه المتحف الذي إن زرته لساعات،فسوف تشعر كأنك زرت مصر الحديثة، وزرت معها مصر المكثفة، مصر منذ أن افتر عنها ثغر التاريخ. نعم زرته، و ذهلت، ولكني لن أستعرض لكم قطعه الأثرية قطعة قطعة، فذلك يحتاج منا لموسوعة ضخمة ولألف سفر عظيم ،وإنما سأعرض عليكم مشاعري بداخله دفقة دفقة و أسرد لكم الأفكار كما توالت علي وداهمتني هناك فكرة فكرة .

في هذا المتحف، اذا كنت ممن يعشقون ركوب آلة الزمن ،فسوف تتحقق رغبتك في السفر نحو العصور السحيقة ،وأنه لسفر لو تعيشونه، لأسطوري وعظيم للغاية القصوى، فلا المهندسون ،ولا علماء الآثار المصريين، قد ادخروا جهدا كي يجعلوه ضربا من الخيال و فلتة من الذكاء الحضاري بالعبقرية الجامحة التي ضمنوها المكان .

كل مافي المتحف يدل على فرادة مصر قديما وحديثا . فيه ستفهم أن لقب أم الدنيا ليس تعبيرا مجازا أغدقته امم الأرض، على مصر هكذا جزافا ومجاملة، بل هو دون الوصف الذي يليق بمصر.إنه دليل على قصور اللغة أحيانا عن قول الحقيقة كاملة لما يفوق الجمال والقوة قدرة الإنسان على التذوق والانتشاء .

لم يكن صدفة أن بني هذا المتحف على ربوة تطل من عل على حديقة غناء و بحيرة فياضة( عين الصيرة) ، .وأن جعل في مدينة الفسطاط ،أقدم عاصمة من العواصم الإسلامية الأربع لمصر، تلك العاصمة التي انشأها عمرو بن العاص .فهذا الاختيار ماهو إلا إشارة إلى أن الإسلام في مصر حضارة حاضنة لحضارات أخرى عريقة سبقته إلى بناء عظمة مصر. في هذا المكان الشديد الدلالة ،،حي مصر القديمة، حيث ينام ملوك مصر القدامي تحت العيون الحارسة لأحفادهم ،يتضوع عبق التاريخ،و يشيع سحر وبهاء الشرق والغرب معا .هو المكان الآسر الأخاذ الذي يعج بالآثار الأخرى، كمعبد ابن عزرا ،والجامع العتيق لعمرو بن العاص، وقصر محمد علي بالمنيل،وقصر المانسرتلي…. ،فهل اراد المصريون ياترى بتعيين هذه البقعة تحديدا أن يفرجوا ملوكهم القدامي على بعض مما تعاقب بعدهم على مصر من حضارات لاحقة؟؟.

حين تتأمل كل هذه المعاني ، تشعر أنك بهوليود ، الا انك لست في استوديو،وإنما انت تنظر لروائع حقيقية تتحدى الخيال و تبز كل ماأبدعته السينما العالمية من الخيال .

تلج المكان، فتتملكك الرهبة . الأمر مهيب جدا واستثنائي للغاية .تشعر أنك في حضرة المجد سائر تتملى في الشموخ .فورا لا تعود ابن لحظتك ،أنت هنا تصبح ابن كل التاريخ… ، تصير ابن بطوطة محدث،إلا أنك أكثر حظا منه .ففي ساعات قليلة تتفوق عليه وعلى كل رحلاته ومغامراته ،مادمت سترى في يوم واحد ماكان عليه أن ينفق أضعاف حياته كي يراه .

موسيقى كأنها آتية من الجنة تلف المكان، تنقلك نقلا على اجنحتها الملائكية لتتأمل ما أعدته لك مصر من ألغاز وأسرار وعجائب وأسئلة لابد لك وأن تطرحها على نفسك عن سر البشرية الدفين، وعن سر الخلود، وعن مايمكن ان تعلمه مصر للعالم .تبدأ زيارتك بما قبل التاريخ ،ثم عصر ماقبل الأسرات ،فعصر الاسرات، ،ثم تتقاطر عليك كل العصور دفعة واحدة : بعد العصر الفرعوني، العصر اليوناني ،فالروماني، فالقبطي،فالنبطي ، فالاسلامي سواء، المملوكي منه أوالعثماني، أوالعلوي الخديوي ،إلى أن تصل إلى عصرك انت ،العصر الحديث.

إنه المتحف المرآة التي تجمعت وانعكست وتزاحمت فيها حضارات شتى ،وهذا ما تعجز عن الإتيان به كل متاحف العالم . متحف تعرض فيه مصر المكتفية بنفسها كنوز ونفائس مصر وحدها .فيه تراث مادي و آخر لامادي ينبجس منه كلاهما فوق التصور . تبدأ رحلتك ،تعجب بكل شيء ، لكن مع ذلك لاتدري أن ما اينتظرك اروع بكثير . فالتصميم المبهر لقاعة الموميات التي تدلف إليها عبر ممر رخامي أسود اللون ذي إضاءة خفيفة وموسيقى ساحرة تعدك لأجواء الدهشة والخوف والتهيب التي ستطبق عليك لامحالة ،و تنقلك وجدانيا لوادي الملوك ،حيث قد عثر أول مرة على أولئك الملوك والملكات،سيبقى دائما التجربة التي لا أظنك تكررها بأية منطقة أخرى بالعالم .

إنه المتحف الذي يستبد بك فيغنيك عن ماسواه من المتاحف الأخرى .من منا لايتذكر حفل نقل هذه الموميات الملكية الذي تابعته كل شعوب الأرض من متحف التحرير إلى هذا المتحف الأيقونة .18 ملكا و4 ملكات مسجون الآن بالمتحف القومي للحضارة بمايليق بمكانتهم لدى المصريين .لكأنما أعادهم أحفادهم البررة للحياة ،حين جعلوا العالم يقف أمام أجسادهم بالاحترام الواجب للملوك مشدوها بمنجزاتهم التي يحير فيها العقل إلى اليوم .نعم كان الفراعنة هناك. وقد شاهدتهم واحدا واحدا راقدين بسلام : الملك سقنن راع الثاني الملك الشهيد الذي حارب الهكسوس،والذي لازال يحمل آثار استشهاده في سبيل مصر ،وتحتمس الثالث الذي هزمهم ،والملكة حتشبسوت ،والملكان العظيمان رمسيس الثاني والثالث….الخ .انهم ليسوا بروائع فنية ،بل أجسادا “مقدسة” تدل على أن قدماء المصريين آمنوا بالحياة الآخرة بعد الموت ،وعلى أن المصريين المعاصرين أبوا إلا أن يحققوا لهم قسطا من أمنية الخلود هاته الآن في هذه الدنيا الفانية .لقد جعلوهم يقهرون الموت كما تمنوا و لكن بطريقةاخرى : أحيوهم بالقدر الذي يستطيعه البشر .

من الواضح أننا لانعرف عن مصر القديمة إلا النزر اليسير ،فأن يفكر المصريون آلاف السنين قبل الميلاد في حفظ أجسادهم وتزويدها بما يلزم للحياة بعد الموت ،ويغلقوا المقابر ويخفوا الغرف ،ويشيدوا أهرامات الجيزة غير البعيدة عن المتحف وغيرها،ويطوروا الزراعة والعمران والرسم والنحت والأدب والطب والحلي واللباس والقوانين ، لدليل على أن مصر عرفت منذ ذاك الزمان حياة فكرية واقتصادية واجتماعية وفلسفية ودينية وعلمية وفنية هائلة لربما تضاهي ما تعيشه البشرية الآن من تقدم أصبحت أشك بل أجزم أنه لم يكن تقدما غير مسبوق . إذ لا أظن علم المصريات الذي تنفرد به مصر عن باقي الأمم إلا كاشفا لنا مستقبلا عن مفاجآت مثيرة ليست بالحسبان .

الآن فقط أقر أني أتراجع عن ماظننته بطه حسين من ظنون حين حض ذات كتاب سماه ” مستقبل الثقافة بمصر ” على ربط مصر بتاريخها الفرعوني و إحياء انتماءها للغرب كونها احتكت كذلك منذ القدم بالحضارتين اليونانية والرومانية أصلا ونبعا كل هذه الحداثة التي أطلقتها أوروبا في العالم . حقا لقد كان رأيه صائبا على نحو كبير .فمن هذا الذي يكون له كل هذا التاريخ المشع الذي ستتباهى به كل أمة قيضه لها الله تعالى ، ثم يقرر أن يضرب عنه صفحا؟.لذلك فإني من الآن صرت أرى مصر خلطة عجيبة لم تتأت أبدا عبر التاريخ .هي حضارة فرعونية قبطية يونانية رومانية عربية إسلامية مملوكية عثمانية. هي باختصار حضارة مصرية .

أليست مصر قلب العالم الذي يصل بين قارات ثلاث،فكيف تكون إذن حادية الحضارة؟ .يكفيها فخرا أنها الدولة الوحيدة المذكورة بالقرآن الكريم ، وماكان ذلك ليكون لولا مركزيتها الحضارية وفرادتها بين الشعوب .

مصر هي متحف العالم المفتوح على السماء والمدفون بأعماق الأرض بلامنازع ،ولا أرى العالم إلا عالة عليها في هذا المجال .قرأت فيما قبل أنها تشتمل على 40% من تراث البشرية ،لكني أرى أنها لربما لم تنبش ولم تبلغ الا للنزر اليسير من آثارها ، ولذلك لا أظن مصر إلا مفاجئة لنا في المقبل من السنين بكنوز جديدة ستغير نظرتنا لأمور كثيرة .

لاخوف على مصر أبدا، فبلد بهذا الزخم الحضاري ،وبهذا التنوع والثراء ،وبهذه العظمة التاريخية وشموخ التراث فيها، وبكل هذه القوة الناعمة وقوة الدفع هاته ،وبهذا التلاحم الذي لايشمل الأحياء من المصريين فقط، بل يشمل معهم اباءاهم واجدادهم من الغابرين العائدين، لهو بلد يملك كل جينات التقدم والعبقرية والتوفيق.

ان قدر مصر الذي لامحيد لها عنه بكل هذه المحفزات ،هو أن تبعث الأمجاد القديمة من مرقدها، وأن تحجز على الدوام مكانتها بين الكبار…فذاك وحده الذي يرضيها ويرضي التاريخ أيضا.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x