لماذا وإلى أين ؟

قراءة في مسرحية أكستازي (2)

قاسم العجلاوي (المقالة الأولى في القراءة)

البناء التقني للعرض المسرحي

على سبيل مقاربة الرؤية الاخراجية للعرض المسرحي

ما يميز أعمال ياسين احجام هو رؤيتة إلاخراجية التي يواجه بها المتلقي منذ اللحظات الاولى للمشاهدة الركحية ،رؤية تمتلك وضوحا في المرجعيات الفكرية المتحررة وفي الرسائل المستهدفة من المسرحية،

واعتمادا على مدارس رائدة في الإخراج المسرحي اخد منها مخرج المسرحية مسافة دون ان يتخلص منها ،ليتساءل عبر هذا العمل : هل اجسادنا مصدر احاسيسنا ورغباتنا ،ام العكس افكارنا ومشاعرنا هي من يحرك اجسادنا واهوائنا ؟

وهكذا تجلت وتناسلت الأجوبة من خلال المزج بين الاداء البيوميكانيك في الحركة والهرولة والملاحقة ، وفي الاداء حد الاندماج مع احاسيس الشخصيات وتقمصها بشكل عميق، كما شاهدنا اكثر من مرة اثناء رسم اللوحة من طرف الزوجة او الدوران الصوفي او التلاشي و السقوط عند ضجعة الموت ، ولم يقف التوجيه الاخراجي عند حدود رواد المسرح الغربي، بل تعداه الى فرجة الحلقة بالحكاية والراوي الذي اداه بتميز الفنان رشيد العدواني وبجانبه طبق العزف الحي من الممثل العازف ياسر الترجماني ، في تناغم تام وتحفيز مباشر للمشخصين ،وهي عناصر نجح المخرج بشكل كبير في توليفها وسبكها في قالب ممتع جميل شد اسماع وألباب المتفرجين طيلة العرض. خصوصا وان عملية الكاستينغ لفريق متمكن من أدواته التشخيصية ، ومتعود على قيادته منحت المخرج تلك الطواعية والسلاسة في توجيه الممثلين وفق مرجعيته وإرسالياته الفنية ،وهو ايضا ماتجلى من اول ظهور للممثلين فوق الخشبة الى نهاية العرض دون بياضات أو فراغات …

تظهر شخوص المسرحية في حلة شبه غرائبية في مظهرها الخارجي ، وفي أفكارها ،تحمل حقائب سفر مثقلة بهموم ذاتية متفاوتة الحمولة والشحنة النفسية التي حددت مسار الاداء التشخيصي للزوجين :

تقاربا في ذكريات الحب منذ زمن الجامعة ، وتباعدا في التفكير، وفي تدبير العيش المشترك داخل بيت الزوجية، وبينهما عازف الجيتار يؤثث لحظات العرض المسرحي بايقاعات متفاوتة الحدة ارتفاعا ونزولا حسب الاحاسيس المضمرة والظاهرة ،والدفينة والطاغية ،تماشيا مع الاعتقاد ان حبة الاكستازيا هي من يمنح السعادة التي توحي بالغناء والرقص ، ولعل ذلك ما يبرر حضور العزف الصاخب الى درجة صداع الراس احيانا ،كانه عن قصد ، نوع من إدماج المتلقي ،
كي يشاطر شخوص الركح احلامهم وآلامهم ،وإن كنت ارغب كمتلقي ان يمنحا المخرج مساحة من صمت الموسيقي للاصغاء الى حوارات واصوات الممثلين بصفاء ذهني اكبر ،كما كنت افضل طلبا لمتعة الفرجة خارج الضرورة التقنية ، ان استمع الى كلام الممثلين دون مكبرات الصوت ،خصوصا وانها قامات فنية تمتلك من المؤهلات الصوتية ما يمكنها من الاداء الاكثر من الجيد ، ووراء كل هذا شخصية مركزية في المسرحية بمثلها الراوي الذي يغذي العرض من حين لآخر بطريقة حكيه ومضامين لغته وحركاته ، واستفزازاته ،وتلميحاته الدينية لجمهور التلقي من قبيل توجيه فعل أمر الى الجمهور : تناكحوا …

في رحاب الاداء التشخيصي

تشخيص ينتقل من ثنائية الزوجين إلى ثلاثية مع الراوي اوالعازف ورباعية تجمع المشخصين في لحظات معينة، تتبادل الحوارات بلغات متعددة، كلاما وصمتا وعزفا وإشارات وحركات أفقية أو دائرية صوفية ومشيا وهرولة وملاحقة الشخوص لبعضها ، هروبا او بحثا عن ذواتها الضائعة، والمغتربة حتى في اشد اللحظات حميمية .

راوي يحمل أحذية حمراء ينثرها شتاتا فوق الركح تذكرا او إعدادا لجلسة حمراء مرت أو قربت ، وحقائب سفر تظهر في البداية والنهاية ،.

راوي تقفز بطلة الحكاية فوق ظهره ،ويحملها بين يديه منسحبا الى الوراء ،الى فضاء مجهول تختفي فيه ليؤكد الراوي انه يخلق الشخصيات ويصيغها ، كما يشاء… تموت وتحيا بامره ، لتظهر بأنفاس جديدة.

حوارات بلغة عربية فصيحة، بطيئة في الالقاء، وبارزة عند حروف الوقف، متقطعة ومتكررة بشكل ممل ،تعبيرا عن كآبة اللحظة ،وعتمة الرؤية حاضرا ومستقبلا في كثير من اللحظات.

تشخيص متمكن من أدواته وحرفية تعامله ،انسجاما وتكاملا بدء بأداء رائع لرضى بنعيم في دور الزوج الحزين المكتئب ، المبهر في تقمصاته ودورانه الصوفي، وفي التعبير عن خوالجه ، وعن حياته الميتة ،وفي موته الحي بين احضان زوجته التي ادتها المبدعة قدس جندول التي إكتملت بها الثنائية بإتقان وتفان في لبوس زوجة متحررة تريد الحب ومتعة الجسد، ولا شيء غير ذلك ، سامرت زوجها ، ورقصت، وغنت، وبكت حين ودعت زوجها على أنغام دوميس روسيس، بعد أن فارق الحياة.

أداء رائع ممتع بفعل التماهي مع الشخصيات في ابعادها النفسية والاجتماعية ، ولا يمكن التمييز فيه بين ادوار رئيسة واخرى ثانوية لانها جميعها متكاملة في بناء الحكاية .

دور الزوج في شخصية *الرجل المكتئب*مدرس الفلسفة التائهةبين الافلام والازرق ، و الفاقد لكل معاني الحياة والمحب لزوجته وفي نفس الوقت الراغب في الانجاب والنسل كاستمرار في الوجود والخلود ، والعاشق للفيلسوف نيتشه مفكر المتعة واللذة وحقيقة الحياة المرتبطة بالجسم في غرائزه واهواءه، وهو مطلب سيكون مصدر اختلاف عميق بين الزوجين ،

في مواجهة دور زوجة متمردة باحثة عن الحب واللذة في اقصى درجاتها ،ولا ترى في زوجها سوى جسد رجل من واجبه منح اللذة والمتعة لشريكته ،ولكنه على العكس من ذلك هو جسد منهك القوى ، نخره الادمان الى درجة التفكير فقط في الانجاب لضمان استمرارية ووجوده في خلف وأطفال ، زوجين أديا الدورين باتقان سواء في التفاعل بينهما عند تذكر لحظات حميمية مرت كاحلام المساء ،او سراب الطريق، او في مواجهة لحظات العجز وعدم القدرة على تلبية وإرضاء مطلب الآخر الذي يخنقهما في صمت ، ويقدر ما ما تعاطفنا مع دور الزوج الحائر المكتئب في حياته الزوجية ، بقدر ما منحنا دور الزوجة بريق صورة التمرد على كل أنماط الحياة الرتيبة والحركة السائدة في المجتمع دون قناعة او منطق .

ادت الزوجة دورها باقتدار كامرأة متحررة مشبعة بافكار نيتشه الباحث عن الحقيقية المختفية وراء اوهام المجتمع في جمل المجاملات ولغة الكذب والرياء …

*في رحاب الفضاء السنوغرافي

باخراج حرفي هادف وأداء تشخيصي ممتع وجميل ،قدم عبد الحي السغروشني باقتدار سينوغرافيا العرض في تشكيل بسيط ولكنه وظيفي ومكمل سواء في خلفية الجدار الفاصل بين عالمين ،

الاول مضاء بتقنية المابينغ في جل لحظاته ،يمنحنا عوالم من الاشكال والرسومات والنوافذ والابواب تفتح وتغلق تماهيا مع الأحداث والمواقف .يتوسطه باب رئيسي يدخل و يخرج منه الراوي، وبابان جانبيان يلجان منهما الزوجان، وعازف حاضر طول العرض ، يتحرك في كل مرة ليراقص الشخوص في شكل جدية صوفية حائرة في لحظات وجدانها الروحي .

عالم آخر وراء الجدار يبتلع الشخصيات في غيابها ويطرح بدائل لمواقف حزينة ومؤلمة .

أزياء سوداء طويلة على نهج المتصوفة ،عدا الراوي بزيه الاصفر المتميز الذي يحيلنا على دلالة كتب التاريخ الصفراء، او ميتولوجيا آلهة الشر والموت المتربص بالانسان . اجتهادات ناجحة موفقة ساهمت في إغناء العرض ومنحه تدفقا من الدلالات المساعدة على وسم الشخصيات والاحداث بابعاد فكرية وجمالية اقتضتها الرؤية الاخراجية لياسين احجام.

على سبيل الختم

مسرحية اكستازيا كحلقة في سلسلة مشروع مؤسسة ارض الشاون عمل جميل وهادف قارب مجموعة من القضايا الاجتماعية والنفسية بحس إبداعي وقيم إنسانية نبيلة تبجل قدسية الجسد ومكانة المرأة ،باداء تشخيصي متمكن دون تكلف او تصنع وبلغة عربية فصيحة معبرة ولغة دارجة صادقة في نقل الاحاسيس والمشاعر ، داخل فضاء سينوغرافي مؤثث بتقنيات الإضاءة المتحركة وموسيقى بعزف حي، وأزياء تقحمنا في عوالم الروح والوجد الصوفي الحائر . مع الإشارة إلى البحث وإعادة النظر في البناء الدرامي للنص الذي يبدو احيانا منشطر الى نصفين ، مابين الراوي الحاكي عن الميتولوجيا ومابين شخوص تؤدي بواقعية فوق الركح ، بإعداد دراماتورجي قد يجد لحمة لشروخ النص ،وهذا لا ينقص للعرض فرجة ومتعة المتابعة .

باحث مسرحي

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x