2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
كيف نجح المغرب في تدبير “التناقضات” في علاقاته الدبلوماسية؟

غليان كبير تشهده أوضاع عدد من دول الشرق الأوسط؛ خاصة بعدما امتدت الحرب بين إسرائيل وحركات المقاومة الفلسطينة إلى دول الجوار، أبرزها لبنان التي شهدت اغتيال زعيم حزب الله؛ حسن نصر الله، وقيادات الصف الأول والثاني في الحركة الموالية لإيران.
وحيث ان الأوضاع في الشرق الأوسط بدأت تتخذ مسارات أكثر تصعيدا على المستويين العسكري والسياسي؛ خاصة بعد إعلان ما سمي “التحالف الدولي” من أجل إقامة الدولة الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين، يظهر دور المملكة المغربية في الأفق؛ خاصة أنها تعتبر القضية الفلسطينية في مستوى قضية الصحراء المغربية، وفي الوقت ذاته تربطها علاقات مع إسرائيل.
وإذا كان المغرب قد نجح في تدبير “التناقضات” في علاقاته الدبلوماسية مع كل من السلطة الفلسطينية وإسرائيل؛ فهي ليست المثال الوحيد على المستوى الدولي الذي حافظت فيه المملكة على مصالحها من خلال نجاحها في تدبير تناقضات السياسات الدولية؛ لعل أبرزها انتماء المغرب إلى المعسكر الغربي الذي تقوده أمريكا وفي الوقت ذاته تربطه علاقات دبلوماسية متميزة مع روسيا.
ويظهر تفوق الدبلوماسية المغربية كذلك في الأزمة الكبيرة بين مصر وإثيوبيا؛ حيث نجح المغرب في الحفاظ على علاقات دبلوماسية مع الطرفين من أجل الإبقاء على مصالحه، في وقت فشلت فيه عدد من الدول حول العالم في الحفاظ على مصالحها من خلال تدبير تناقضات السياسة الدولية.
وخلال الشهر الجاري تناقش اللجنة الرابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة قضية الصحراء المغربية، في أفق أن يصدر مجلس الأمن الدولي قراره بتمديد تفويض بعثة الأمم المتحدة في الصحراء (مينورسو)، الذي ينتهي في 31 أكتوبر 2024، حيث لوحظ دعم مجموعة من الدول للمقترح المغربي الحكم الذاتي لحل النزاع المفتعل، ما يؤكد قوة الدبلوماسية المغربية في تدبير تناقضات السياسة الدولية للحفاظ على مصالح المملكة، فكيف نجح في ذلك؟
نهج قديم وسياسة واضحة
في هذا الإطار، يقول الباحث في سياسات التنمية والتغيير وتحليل المخاطر؛ عبدا للطيف العسري، إن مقاربة موضوع كيفية تدبير المغرب لتناقضات السياسة الدولية يعد أحد المفاهيم الرئيسية لفهم موجهات السياسة الخارجية للمغرب، مشيرا إلى أنه بالرغم أن “نجاح المغرب في مسألة تدبير التناقضات في سياساته الخارجية ظهر بشكل بارز في الفترة الأخيرة، بدءًا بالنزاع الروسي الأوكراني حيث عادت العلاقات الدولية إلى الانقسام بين الشرق والغرب، وهو وضع دولي كان يُعتبر بائدًا مع نهاية الحرب الباردة، فإن هذا النهج في السياسة الخارجية المغربية قديم بقدم تاريخها السياسي”.
ووقف العسري الذي كان يتحدث لصحيفة “آشكاين” الإخبارية، على بعض محطات التاريخ السياسي المغربي الحديث، ليستشهد بالسلطان الحسن الأول وكيف استطاع استثمار التناقضات الدولية لحماية المغرب من الاستعمار، وكيف ظفر الملك محمد الخامس بوعد مؤتمر أنفا بالدار البيضاء سنة 1943، وهو الوعد الذي شكّل ركيزة الاستقلال المغربي فيما بعد.
ويؤكد المتحدث أنه لفهم كيف استطاع المغرب بناء قدرة على تدبير التناقضات الدولية وتحويل الأزمات الدولية إلى فرص، لا بد من استذكار حقائق تاريخية، منها أن النظام السياسي المغربي يُعدّ أقدم نظام سياسي مستمر في العالم، وهو ما يحفظ استمرارية الذاكرة السياسية لهذا البلد. ما يعني هذا أن الدبلوماسية المغربية تتحرك بإرث من الدروس وخبرات قرون، مما يجعل منظورها للأحداث والعلاقات أوسع نطاقًا وأبعد ما يكون عن النظرة الظرفية للأحداث.
ووفق الباحث في تحليل المخاطر، فإن السياسة الخارجية للمغرب، بهذا المعنى، لا تقوم على ردود أفعال آنية بل تبني علاقات استراتيجية متينة ووفية، كما يتجسد ذلك حرفيًا في عقيدة “رابح ـ رابح” و”جنوب ـ جنوب” في السياسة الخارجية المغربية. مبرزا أن ذلك ظهر بوضوح بعد الزيارة الملكية للدول الإفريقية سنة 2014، التي جاءت في سياق استعداد المغرب للعودة إلى الاتحاد الإفريقي، حيث كان المغرب واضحًا حينها فيما يتعلق بهدف زيارته، ليس فقط حشد التأييد لعودته للاتحاد الإفريقي، ولكن بناء شراكة استراتيجية راسخة مع الدول الإفريقية. ويظهر هذا اليوم في الاستثمارات المغربية في إفريقيا، ومنها مشروع أنبوب الغاز الذي سينطلق من نيجيريا ويمر عبر 13 دولة.
الثقة وشرعية القانون الدولي
ويعتبر العسري الثقة عاملاً أساسيًا في العلاقات الدولية المغربية، لافتا إلى أنه بينما تحافظ دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا (المعسكر الغربي سابقا) على تحالفاتها التقليدية مع المغرب، يسعى المغرب كذلك إلى تعزيز علاقاته مع قوى صاعدة كروسيا والصين (المعسكر الشرقي سابقا)، مشددا على أن هذه القدرة على التوازن بين التحالفات التقليدية والجديدة تعزز من مرونة السياسة الخارجية المغربية وثباتها في مواجهة التغيرات الدولية.
من جهة أخرى، يرى المتحدث أنه على الرغم من الانتقادات التي تواجه القانون الدولي، إلا أنه لا يزال يُعتبر المعيار الأول لقياس شرعية أعمال الدول، لذلك يحرص المغرب دائمًا؛ وليس فقط في قضية الصحراء، على أن تكون تصرفاته وتوجهاته تتمتع بالشرعية الدولية، مثال ذلك التدخل العسكري المغربي بمعبر الكركرات سنة 2020.
وأفاد الباحث في سياسات التنمية أن لغة القانون الدولي تُعدّ أداة مهمة للدفاع عن المصالح الوطنية وتحقيق التوازن في العلاقات بين الشركاء المختلفين، مضيفا “نرى ذلك في تصويت المغرب بالامتناع في مجلس الأمن على القرار المتعلق بإدارة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفي ربطه علاقات اقتصادية مع روسيا رغم العقوبات الأمريكية عليها، ما يعني أن المغرب قد يتخذ قرارات قد لا تكون مرضية لبعض شركائه الاستراتيجيين، لكن موقفه في ذلك معزز بشرعية قانونية دولية.
لغة المصالح وصفة النجاح
ويرى الباحث في سياسات التنمية والتغيير وتحليل المخاطر نجاح المغرب في تدبير تناقضات السياسة الدولية من زاوية المصالح الإقتصادية التي أصبحت الموجه الرئيس للعلاقات الدولية، مضيفا أن “الصين اليوم تُعتبر التهديد الأكبر للاقتصاد الأمريكي، ورغم العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة، فإنها لا تطمح إلى تدمير الاقتصاد الصيني، نظرًا لتشابك مصالحهما الاقتصادية”.
وبحسب المتحدث، فإن “المغرب يدرك أن زمن المواقف الإيديولوجية في العلاقات الدولية قد انتهى، وأصبحت المصالح الاقتصادية هي الموجه الأساسي لعلاقاته الدولية”، مبرزا أن ذلك يظهر في سياسة اليد الممدودة التي يتبعها تجاه الجزائر رغم أنها تعتبر العدو الأول لمصالح المغرب. فالجزائر بحكم الجغرافيا والتاريخ تظل أهم شريك دولي محتمل للمغرب.
وخلص العسري بالتأكيد أن مداخل المغرب لتدبير التناقضات في علاقاته الدولية متعددة، ولا يمكن حصرها في ما تم التطرق إليه فقط، مشددا على أن ما يمكن الجزم به هو أن المغرب استطاع أن يجد وصفة ناجحة لتدبير علاقاته الدولية، وهو ما تثبته الانتصارات اليومية التي يحققها في عالم متغير.