2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

محمد كرم
لأول مرة في حياتها، وبمجرد إحالتها على التقاعد النسبي و مغادرة أبنائها الثلاثة للبيت العائلي و انتشارهم في الأرض لأكثر من سبب، أبت جارتي المباشرة إلا أن تهدي لنفسها سيارة صغيرة جذابة و بمواصفات محترمة (بما في ذلك توفرها على وسائد الإنقاذ الهوائية التي يبدو أنها تمنع الموت بشكل فعال حتى عند الارتطام بقطار سريع أو عند السقوط في واد سحيق !!) مستغلة في ذلك عرضا مغريا لشركة متخصصة في تسويق ماركة أوروبية معروفة. أصبت بالذهول عندما شاهدت الجارة إياها و هي تتصارع مع المقود في محاولة لركن عربتها بمحاذاة إقامتنا المشتركة، إذ لم أكن أعلم بأنها أصبحت تتوفر على رخصة سياقة، كما أني عجزت عن فهم الغاية من اقتناء وسيلة النقل الجديدة. فضولي “العلمي” دفع بي إلى انتهاز أول فرصة للتطرق إلى الموضوع مع الزوج الذي سبقها إلى التقاعد الكامل بفترة قصيرة. سألته عن السر الكامن وراء إضافة سيارة ثانية إلى سيارة العائلة الرسمية فأجابني ببساطة مذهلة قائلا : “حتى يبقى كل واحد منا على راحته.”
لن أستغرب إطلاقا إذا انبرى شطر من القراء للشك في حسن نواياي من وراء تحرير هذا المقال بل و نعتي بالحسود الذي لا يحب أن يرى أثر النعمة على وجوه جيرانه و على أسلوب حياتهم اليومي.
أقول للمشككين : تصوروا معي ما سيكون عليه الحال لو تبنى معظم البالغين مقاربة هذا الجار و زوجته لمسألة التنقل داخل التجمعات الحضرية بشكل خاص. تصوروا طرقا بعدد طرق مدننا المغربية مثلا و هي تحتضن 20 مليون سيارة !!! و كم سيكون في تقديركم طول الأرصفة المطلوبة لركن هذا العدد الهائل من العربات ؟ و تصوروا معي فقط حجم المياه التي سيتطلبها غسل أسطول السيارات هذا….هذا ناهيك عن الأضرار البيئية الخطيرة الناجمة عن انبعاث الغازات السامة و الأضرار الصحية الناتجة عن الضغط النفسي الملازم للقيادة و خاصة في الظروف المتعبة.
من المستحيل حل معضلتي الاختناق المروري و التلوث البيئي بهذه العقلية و بشروط الشراء الحالية التي تجعل من اقتناء سيارة عملية لا تختلف في شيء عن اقتناء دراجة هوائية أو قميص (هل من العقل في شيء تمكين أي كان من امتلاك سيارة حتى و إن كان مفلسا ؟ هل من المنطقي أن تصبح صاحب سيارة فقط مقابل وضع توقيعك على مطبوع ورقي ؟) . أما هدف تنقية الأجواء فيظل هدفا بعيد المنال، و مبادرة “يوم بدون سيارة” ببعض المدن تظل إجراء بائسا يفتقر إلى النجاعة و الاستدامة. لابد من إيجاد حلول مبتكرة أكثر صرامة. ليست هناك مدينة واحدة في العالم بإمكانها تفعيل شعار “سيارة لكل مواطن”. في نيويورك و لندن، على سبيل المثال، أصبح الولوج إلى وسط المدينة مؤدى عنه ما خفف بشكل ملحوظ من حدة الازدحام به. و في برشلونة منعت السلطات البلدية السيارات القديمة من الجولان بمناطق معينة داخل المدار الحضري كما وضعت رهن إشارة سكان المدينة بطاقة تسمح بالاستعمال المجاني لوسائل النقل العمومي لمدة ثلاث سنوات لكل من وافق على إحالة سيارته القديمة على مقبرة السيارات. أما في أثينا و نيودلهي فـإن تراكم السحب السامة فوق مستوى معين يخول لشرطة المرور الحق في شل حركة العربات إلى حين استرجاع الهواء لجزء من صفائه .
نعم، إن الحل لا يكمن في توسيع الشوارع و الدليل على ذلك أن الاختناق المروري سرعان ما يعود ليفرض نفسه بعد كل عملية توسيع، و هذا أمر طبيعي مادام أن المشكل يجد تفسيره الأول في التزايد الصاروخي لعدد العربات التي تجوب الشوارع و الأزقة، كما أن الحل لا يكمن في إقامة المزيد من الجسور أو حفر المزيد من الأنفاق داخل المدن أو تعويض السيارات العاملة بالطاقة الأحفورية بالسيارات الهجينة أو الكهربائية بل يكمن أساسا في تغيير العقليات بالتخلي عن الأنانية المستشريةبالمجتمع (أولى أولويات شباب اليوم بعد التوظيف مباشرة هو اقتناء “حديدة واعرة”!!)
و باستحضار فوائد النقل العمومي الجماعي و بتجند السلطات لتجويد هذا النوع من النقل و الرفع من جاذبيته حتى لا تجد شريحة مهمة من المواطنين مبررا لعدم الإقبال عليه. أما استمرار الناس في إشباع أنانيتهم و استمرار وقوف الدولة موقف المتفرج فلن يكون من نتائجهما غير تعميق أزمة المرور و تكريس التدهور البيئي الشيء الذي أضر كثيرا بصورة حواضر جميلة كثيرة و نال من سحرها.
و لعل من أبرز مؤشرات الأزمة ـ إضافة إلى الوقت الذي أصبحت تستغرقه التنقلات و الجهد المضاعف الذي أصبحت تتطلبه القيادة ـ التجاء عدد متزايد من أصحاب السيارات إلى وضع عرباتهم على الرصيف أو “حجز” جزء من جانب الطريق بوضع صناديق أو عجلات ليضمنوا ركنها على مقربة من مقر سكناهم رغم علمهم بعدم قانونية فعلهم. هذا السلوك من شأنه تكريس التخلف و الزيادة في حدة التوتر الذي يطبع علاقات الجوار المعاصرة.
لست ضد توفر كل مواطن مهما كان مستواه المادي و الاجتماعي على سيارة، لكني ضد توفر كل عائلة بمسكن موحد على أكثر من سيارة واحدة ما لم تقتض الضرورة القصوى عكس ذلك. و من نافلة القول إن من يقتات من المهن و الأنشطة التجارية المرتبطة بالسيارات لن يهدأ له بال إلا بعد تمكين كل مواطن حتى من سيارتين : سيارة الصيف و سيارة الشتاء … و ربما حتى سيارة الربيع و سيارة الخريف !!! الدولة نفسها ليس من مصلحتها حث الناس على السير على النهج الذي أدعو إليه بحكم ما تدره عليها صناعة السيارات و تسويقها و استغلالها من فوائد مادية و اقتصادية لا يستهان بها. هناك بكل تأكيد إصرار من كل الجهات على إغراق الطرقات بالعربات و بكل الوسائل الممكنة بما فيها إرساء تسهيلات معتبرة في أداء ثمن الشراء و ابتكار تحفيزات للاستفادة من خدمات التأمين و الصيانة حتى أضحى التنقل ـ بل و العيش أيضا ـ داخل كل المدن الكبرى و العديد من المدن المتوسطة قطعة من جهنم و أصبح الاستقرار بالبادية حلم العديد من المتقاعدين . شركة “تاتا نانو” الهندية كانت السباقة في العصر الحديث إلى إبداء الرغبة ـ من باب التعاطف ـ في تمكين ذوي الدخل المحدود من اقتناء سيارة حضرية في غاية الصغر لقاء مبلغ مالي لا يتجاوز 2000 دولار أمريكي. المنافحون عن صفاء البيئة بالهند لم يقفوا مكتوفي الأيدي و مارسوا الضغط اللازم على الشركة و الحكومة بهدف حملهما على التراجع عن المشروع حتى لا يتحول إلى أداة للانتحار الجماعي بالنظر إلى عواقبه الوخيمة إن على مستوى الهواء أو على مستوى الجولان. أما في إنجلترا فقد برزت في سبعينيات القرن الماضي جمعيات نادت بوقف مشاريع شق المزيد من الطرق السريعة للحيلولة دون إفساد جمالية الريف الإنجليزي. و من فرط الوعي بأهمية المحافظة على البيئة أصبحت المواجهات بين حماتها و قوات الأمن تكتسي طابعا داميا في بعض الأحيان.
فبأي منطق إذن نبدي تذمرنا من التغيرات المناخية و انعكاساتها على أكثر من قطاع و صعيد و نحن نساهم بوعي أو بدون وعي في تفاقمها ؟ كيف يمكن لأي عاقل يعاين ما يشهده العالم من حرائق غير مسبوقة و فياضانات حتى في عز الصيف و حرارة مفرطة حتى في عز الشتاء و يعلم جيدا أن ثاني أوكسيد الكربون هو أهم مسببات الاحتباس الحراري و يلح رغم ذلك على توفر عائلته الصغيرة على أكثر من سيارة واحدة ؟ كيف يعقل أن تحتل أسرة نووية شقة عادية بعمارة لكنها تحتاج إلى مساحة بجانب الرصيف قادرة على احتضان ثلاث سيارات أو أكثر ؟
قد أبدو ساديا، و لكن وجب الاعتراف بأني كنت مسرورا و أنا أرى أثمان المحروقات تتصاعد خلال السنين الأخيرة حتى بلغت مستويات غير مسبوقة. أما مبعث سروري فهو توقع تخلي الكثيرين عن عرباتهم مع ما يعنيه ذلك من تقلص في الازدحام المروري و تراجع في حدة الضوضاء و في درجة تلوث الأجواء. للأسف، ما توقعته لم يحصل و ظلت دار لقمان على حالها، بل هناك تقارير أفادت بارتفاع مبيعات البنزين و الغازوال خلال هذه الفترة و أفادت كذلك بعودة انتعاش مبيعات السيارات الجديدة بعد الإعلان الرسمي عن انتهاء الإجراءات الاحترازية التي رافقت الجائحة.
أنا أعلم علم اليقين أن قراءتي لواقع السيارات بالبلاد و توصياتي في الموضوع لن تروق للعديدين. رغم ذلك، كان لابد أن أضيف صوتي إلى أصوات من سبقوني إلى دق ناقوس الخطر عسى أن يصل رنينه إلى أكبر عدد ممكن من الآذان السليمة و تنفذ رسالته إلى أكبر عدد ممكن من العقول الراجحة الحاملة لهم صفاء بيئة جيل اليوم و الأجيال القادمة و المقتنعة بأن المواطنة الحقة تبدأ بنبذ الأنانية المقيتة… و يظل شعار “سيارة لكل أسرة مقتدرة” الأكثر انسجاما مع منطق الأشياء.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين و إنما تعبر عن رأي صاحبها.