2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - info@achkayen.com
فلسفة السياق

عبد الحفيظ العمري
لا شيء في الحياة منفصلٌ عما يُحيط به، فكلُّ شيءٍ متأثر بالبيئة المحيطة، ويبلغ هذا التأثر مداه في تشكيل هذا الشيء نفسه.
فالإنسان ابن بيئته لا ينفكُّ عنها، تُطبّعه بطباعها وتلزمه بظروفها، أياً كانت هذه الظروف سلباً أو إيجاباً.
فلو أنّ عالماً كأينشتاين، مثلاً، وُلد في بيئة عربية تخضع لبيروقراطية مملّة لا تُشجّع على البحث العلمي ولا تحتضنه، فهل كان من المتوقع أن يقدّم مثل تلك الأفكار الثورية التي غيّرت مفاهيم الفيزياء الحديثة؟! أم كان سيظل ذلك الموظف البسيط في مكتب براءة الاختراعات في برن السويسرية حتى تقاعده؟!
فالبيئة هنا هي السياق الذي يوضع فيه الإنسان، ومن دون فهمها لا نستطيع أن نُحيط علماً به.
سياق اللغة
يلعب السياق في اللغة الدورَ الأكبرَ في صياغة العبارات؛ لأنّ المفردة في المعاجم تحمل دلالات ومعاني متعددة، لكن وضعها في سياق العبارة يجعل المفردة تحمل دلالة محددة ومقصودة، لا كل تلك الدلالات مجتمعة، بل وقد تتعدى ذلك إلى دلالات تخرج عن دلالات المعاجم بما نسميه الدلالات المجازية، ولنأخذ مثلاً كلمة (ضرب)؛ فهي في (ضرب زيدٌ عَمْراً) بمعنى: وكز، وفي (ضرب اللهُ مثلاً) بمعنى: ذكر، وفي (ضرب فلان موعداً) بمعنى: حدّد، وفي (ضرب الحارسُ الجرسَ) بمعنى: دقَّ، ونجد المجاز في (فلان ضرب في الأرض) بمعنى: سعى، إلى غيرها من المعاني، فانظر إلى تعدّدها وكيف أنّ السياق حدّد معانيها.
لذا نجد العالم اللغوي عبد القاهر الجرجاني يؤكّد أهمية السياق؛ فيقول: “وجملة الأمر أنّا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنّا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلَّقاً معناها بمعنى ما يليها”(دلائل الاعجاز، ص: 402).
سياق التاريخ
في التاريخ، تحيط بالأحداث التاريخية ظروفٌ تحكمها بما يمكن أن نُسميها سياق تلك الأحداث، فلا فهم عميق ولا دقيق لتلك الأحداث إلا في سياقاتها المتعددة من مكانية وزمانية وديمغرافية وغيرها، وإيراد حادثة هكذا من دون ملابساتها وظروفها لا يحسم أمر التحقّق منها وإدراك دواعيها ومسبباتها، لذا نجد العلّامة ابن خلدون يجعل من طبائع العمران وما يقتضيه هو القانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار المرويّة؛ لأنَّ الوقائع التاريخية لا تحدث بمحض الصدفة أو بسبب قوى خارجية مجهولة، بل هي نتيجة عوامل كامنة داخل المجتمعات الإنسانية، فعلم التاريخ، وإن كان “لا يزيد في ظاهره عن أخبار الأيام والدول”، إنما هو “في باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعد في علومها وخليق” (المقدمة، ج1/3-4)، فيردُّ ابن خلدون بعضاً من مرويات التاريخ التي يراها لا توافق السياق الذي حدثَتْ فيه، ومن ذلك ما نقله المسعودي في حديث مدينة النحاس، وأنّها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة، ظفر بها موسى بن نصير في غزوته إلى المغرب، وأنّها مغلقة الأبواب، وأنّ الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر، وكذلك أنّ جيوش موسى، عليه السلام، قد بلغت ست مائة ألف مقاتل، وكذلك ما روى الطبري والجرجاني والمسعودي من أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب، أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب، وأنَّ أفريقش بن قيس بن صيفي من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى، عليه السلام، أو قبله بقليل غزا أفريقية وأثخن في البربر، وأنّه الذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم، وقال: ما هذه البربرة، فأُخذ هذا الاسم عنه، ودُعوا به من حينئذ، وأنّه لمّا انصرف من المغرب حَجَزَ هنالك قبائل من حِمْيَر، فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة وكتامة… وغيرها من الأخبار (المقدمة، ج1/11 ،12 ،59).
سياق الفقه والتفسير
في الفقه، تتلوّن الفتوى التي يُصدرها المفتي بالسياق الذي تُوضع فيه، لأنّ الفتوى ما هي إلا اجتهاد ذلك المفتي ضمن ما علمه من أصول الفقه وفروعه، لكنها، أي الفتوى، بنتُ الزمان والمكان الذي وُجدت فيه، وكذلك ليست بمعزل عن المُستفتي الذي طلبها، فكل تلك المحددات والظروف يمكن أن نسمّيها سياق الفتوى الذي قد يُغيّر الفتوى نفسها إذا تغيّر، واسمع معي ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنه، قال: “كنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فجاء شابٌ، فقال: يا رسولَ الله، أُقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخٌ فقال: أُقبِّلُ وأنا صائم؟ قال: نعم، قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: قد علمتُ لِمَ نَظَرَ بعضُكم إلى بعض، إنَّ الشيخ يملكُ نفسَه”.
فقد اختلفت فتواه، صلى الله عليه وسلم، في حكم واحد، وذلك لاختلاف الحالين.
فكيف بعد ذلك يستخرج بعض علمائنا فتاوى مرَّ عليها أكثر من سبعمائة عام لتطبيقها في زماننا المعاصر لأنّها للفقيه الفلاني أو العالم الفلاني، من دون مراعاة سياق صدور الفتوى الأصلية نفسها، ولا ظروف عصرنا ومدى المواءمة بينهما؟!
أما في التفسير فقريب الشبه من الفقه؛ فمع وجود القواعد الثابتة في التفسير التي أرساها علماؤنا الأوائل، رحمهم الله تعالى، إلا أنّ ثقافة المفسّر وذائقته اللغوية وكذلك علوم عصره الذي يعيش فيه، كل هذه سياقات تحيط بالتفسير الذي يقدّمه ذلك المفسّر في عصره، لأنّ عطاءات القرآن لا تنتهي؛ فهو الخالد إلى يوم القيامة، لكن سياقات كل عصر تفرضُ على المفسّر ادراكات وإبداعات جديدة يستخرجها من الكتاب العزيز، ويرجع ذلك إلى تعدد الدلالات التي تحملها المفردة القرآنية، فتلعب ثقافة العصر (أحد السياقات) دوراً محورياً ليختار المفسّرُ إحدى دلالات المفردة القرآنية دون غيرها، فيظل تجدد تفسير القرآن في كل عصر معلماً بارزاً من معالم إعجازه.
الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.
لا فض فوك ايها الفيلسوف البارع. وما احوجنا الى فلسفة تفتق العقول وتحافظ على الاصول.