لماذا وإلى أين ؟

الحمل بشبهة والبحث في الظروف والنيات

الدكتور محمد بنيعيش*

أولا : شبهة الحمل وضرورة التقصي والتحري

 مسالة الشبهة تعتبر من أهم المواضيع التي ينبغي التوقف عندها والتثبت في الحكم عليها،وخاصة في جانبها السلبي والمؤدي إلى العقوبة أو الحرمان ،لأن المسألة قد يختلط فيها الصواب بالخطأ والنية الحسنة بالسيئة والقصد بغيره والعلم بالجهل والنوم باليقظة،وبالتالي فهي عبارة عنسكر يصيب الإنسان بغير مسكر فيقع المحذور من غير أن يريد أو يقصد،ومن ثم قد تترتب عنه نتائج بحكم العادة والقانون الذي أجرى الله تعالى عليه  الأسباب في ارتباطها بعضها ببعض تبعا وتولدا ونتيجة.

    إذ على رأس هذه المتر تبات يوجد موضوع الحمل والولادة حينما يلتقي جنسيا رجل بامرأة قد يترجح بين الحتمية والاحتمال،بحيث في كثير من الأحيان لا يؤدي إليه رغم توفر كل الشروط الموضوعية والظاهرية لتحقيقه،لأن الحمل مسألة خلق وتقدير إلهي “الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ،وكل شيء عنده بمقدار””يهب لمن يشاء إناثا ويهب لم يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما”.

  فالحمل بشبهة في الوطء لدى امرأة خالية من الزوج يبقى  حكمه معلقا بين قرار الواطئ وصدق دعوى الموطوءة والظروف الموضوعية المحتملة لتبرير هذه الشبهة ،ومن ثم ففي حالة وجود القرائن الموضوعية والمرجحة لهذا الاعتبار فإن جملة من الأحكام تترتب عن هذا الإجراء غير العادي والطارئ على مقياس مقتضى الأحكام الشرعية العامة والمرخصة للاتصال بين الرجل والمرأة على مستوى التناكح والتناسل .

   فكما تقرر في الشريعة والفقه التمييز بين القتل العمد أو شبهه وبين القتل الخطأ وذلك بالانتقال من القصاص إلى الدية مع أن القتل يبقى هو نفسه مآلا ونتيجة ،فإنه كذلك، برغم أن المستويات تتفاوت قصدا وغاية وشكلا ومضمونا ،فقد انتقلت الشريعة من عقوبة الحدود في الوطء بشبهة إلى اعتبار مادي نسبي إن كان هناك حمل بعد الاستبراء والإقرار به .

  إذ أن الواطئ سيؤدي الصداق كتعويض رمزي عما أصابه من المرأة خطأ،وهذا فيه إشارة خفية ومعنوية لدرء شبهة الزنا عن هذا النوع من الوطء والذي مؤداه ابتداء إنزال العقوبة البدنية بالواطئ والموطوءة في حالة تطبيق الحدود الشرعية والإشهاد أو الإقرار بالزنا صراحة .فيكون الصداق في الوطء بشبهة بمثابة استدراك شرعي لهذا الخطأ غير المقصود ابتداء وحماية للمرأة من أن تضيع حقوقها المادية أو أن تهدر معنوياتها بقذفها أو التشكيك في صحة دعوى الخطأ وشبهة الوطء .

  في هذا المجال  نجد المدونة الكبرى تفرع ب:”قلت :أرأيت لو أن رجلا تزوج امرأة فأدخلت عليه غير امرأته فوطئها؟قال:بلغني عن مالك أنه قال في أختين تزوجهما أخوان فأخطئ بهما فأدخل على هذا امرأة هذا وعلى هذا امرأة هذا ،قال مالك:ترد هذه المرأة إلى زوجها وهذه إلى زوجها ولا يطأ واحدة منهما زوجها حتى ينقضي الاستبراء ،والاستبراء ثلاث حيض،ويكون لكل واحدة منهما صداقها على الذي وطئها ،فكذلك مسألتك ،قلت:أرأيت المرأة إذا تقاحمت وقد علمت أنه ليس بزوجها ؟قال:هذه يقام عليها الحد في رأيي ولا صداق عليهاإذا علمت .قلت :أرأيت إن قالت لم أعلم وظننت أنكم زوجتموني منه؟قال:لها الصداق على الرجل الواطئ ويكون ذلك للذي وطئها على الذي أدخلها عليه إن كان غره منها أحد”.

  فلا ينبغي أن   يستغرب من هذه الأمثلة فإنها واقعية حتى عصرنا الحالي،وقد تتكرر في عدة أماكن وخاصة حيث يغيب أهل العلم بالشريعة ويغيب الوعي بالأحكام ويعم الجهل والظلام،وما أكثره في مجتمعاتنا المغرورة ببريق الحداثة والإعلام مع سبق الإصرار والترصد ،وكيف لا وغالبية مثقفي زماننا إما منحلين ومتفسخين إلى أقصى درجة ولا صلة لهم بالعلوم الشرعية ثقافة أوعملا تطبيقيا ،وإما متشددين ومتحجرين فقهيا وفكريا ،لا يأخذون من النصوص سوى أنصافها وأشطرها،فلا هم فقهاء وعلماء ولا هم عامة ودهماء،سبق وفصلنا الحديث عن أهم مظاهرهم في كتابنا “البطالة الفكرية في مجتمعنا“،وبالتالي فقد تلغى أحكام الخطوبة ونظر الخاطب إلى مخطوبته بحكم التشدد والفصل غير الشرعي بين الجنسين في مواطن يبيح الشرع للرجل أن يتواصل مع المرأة على غايات شريفة وأهداف شرعية سليمة وخاصة في مجال الخطوبة وأحكامها!

  ثانيا : الحمل بشبهة والتحقيق في النيات والملابسات

  فمن حيث اعتبار النسب في شبهة الوطء نجد في المغني :”إن وطئ رجل امرأة لا زوج لها بشبهة فأتت بولد لحقه نسبه ،هذا قول الشافعي وأبي حنيفة وقال القاضي :وجدت بخط أبي بكر أنه لا يلحق به لأن النسب لا يلحق إلا في نكاح صحيح أو فاسد أو ملك أو شبهة ملك،ولم يوجد شيء من ذلك ،ولأنه وطء لا يستند إلى عقد فلم يلحق الولد فيه الوطء كالزنا،والصحيح في المذهب الأول .قال أحمد :كل من درأت عنه الحد ألحق به الولد ولأنه  وطء اعتقد الواطئ حله لحق به النسب كالوطء في النكاح الفاسد وفارق وطء الزنا فإنه لا يعتقد الحل فيه ،ولو تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ لأنه وطء يعتقد حله فلحق به النسب كالوطء في نكاح فاسد”.

  فالملاحظ في النص التركيز على الاعتقاد الذي يربطنا بمسألة النية التي سبق وبينا مركزيتها في التشريع الإسلامي عن قريب،كما أن هناك تقاربا كبيرا بين النكاح الفاسد والوطء بشبهة وخاصة في هذه المسألة وهي :الاعتقاد بالحرمة أو الحلية عند الوطء ،بحيث قد يكون الزواج فاسدا مع اعتقاد فساده ولكنه مع ذلك يلحق الولد بالواطئ في حين يقام الحد عليه كما نجد في شرح هذين البيتين من “تحفة الحكام لابن عاصم“:

             وما فســــاده من الصــــداق     فهو بمهر المـــثل بعد بــاق

             وحيث درء الحد يلحق الولد     في كل ما من النكاح قد فسد

   أي يلحق الولد في كل نكاح فاسد حيث درء الحد موجود،والمعنى أن النكاح الفاسد كان متفقا على فساده كنكاح ذات محرم أو خامسة أو مختلفا في فساده كالمحرم والشغار إن درئ فيه الحد عن الزوج بعد علمه في الأولين ومطلقا في الأخيرتين ،لأن الخلاف ولو خارج المذهب يدرأ الحد فإنه يلحق  فيه الولد،ومفهومه أنه إن لم يدرأ فيه الحد لا يلحق الولد به لأنه محض زنا ،قالوا إلا في ست مسائل أشار صاحب المنهج (الزقاق)إلى خمسة منها بقوله:

           ونـسب والـحد لن يجتـمـعـا        إلا بزوجــات ثلاث فاسـمعــا

           وحيث درء الحد يلحق الولد        في كل ما من النكاح قد فسد

   فصورة المبتوتة أن يتزوج الرجل المرأة فتلد منه فيقر أنه كان طلقها ثلاثا وراجعها قبل زوج وهو عالم بحرمة ذلك ،وصورة الخامسة أن يتزوج الرجل المرأة فيولدها ثم يقر أن له أربع نسوة سواها وأنه تزوجها وهو يعلم حرمة الخامسة ،وصورة المحرم أن يتزوج امرأة فيولدها ثم يقر أنه كان يعلم حرمتها عليه قبل الوطء بالنسب أو الرضاع أو الصهر أو المؤبد،وصورة إحدى الأمتين أن يشتري الرجل الأمة فيولدها ثم يقر أنها ممن تعتق عليه بالملك ،وصورة الأخرى أن يشتري أمة فيولدها ثم يقر بأنه كان عالما بحريتها حين الوطء”.

  ما يهمنا بالدرجة الأولى في هذه الأمثلة والفتاوى هو اعتبار موضوع الشبهة كإحدى الوسائل للحفاظ على الحقوق وخاصة حق الطفل والمرأة ،إذ أن المخطئ عمدا قد  ينال جزاءه بالعقوبة المناسبة ،ولكن النتائج المترتبة عن خطئه كما في الأمثلة السابقة تبقى معتبرة شرعا وذلك لوجود نوع شبهة في المسألة لم تصل إلى مستوى درء الحد كما لم تعمل على نفي النسب ،بحيث يضع مسألته في أعلى المقامات والاعتبارات ،ومعناه الحفاظ على استقرار الكيان الإنساني في إطار اتصال سنده النسبي ،ومن ثم كان تقسيم الفقهاء لأنواع الشبهة في الوطء إلى ثلاثة أقسام وهي:

 أ- شبهة الملك أو الحكمية

ب- شبهة العقد

ج- شبهة الفعل

وهذا ما سنناقشه آجلا إن شاء الله تعالى . وهو الهادي إلى الصواب

*أستاذ العقيدة وفقه الأسرة وجدة، المملكة المغربية

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x