2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
”كِتَاب أَثَار جَدَلا”.. الرِّوَايَة الَّتِي كَادَت أَنَّ تُودِي بِحَيَاة نَجِيب مَحْفُوظ بَعْدَ اِتِّهَامَات بِتَجْسِيد الله وَالْأَنْبِيَاء (الحلقة 02)

” كتاب أثار جدلا” رحلة في عالم الأفكار الممنوعة، سلسة تنشر على شكل حلقات طيلة شهر رمضان في ”آشكاين”، تتناول مؤلفات خلقت ضجة كبيرة، في السياسة، في الدين، كما في قضايا اجتماعية.
هذه الكتب دفعت مؤلفيها أثمانًا باهظة، بلغت حد التكفير والتهديد بالقتل وتنفيذه أحيانا، وتارة أخرى تدخلت الرقابة وبقيت هذه المؤلفات ممنوعة من التداول لسنوات.
لكنها في المقابل أحدثت ثورة فكرية وخلخلت مفاهيم كانت بمثابة طابوهات لفرات طويلة.
سيكون قراء ومتابعو جريدة “آشكاين” على موعد مع هذه السلسلة طوال أيام شهر رمضان.
الحلقة الثانية: “أولاد حارتنا”
أثارت رواية “أولاد حارتنا” للأديب المصري نجيب محفوظ، ضجة كبيرة منذ ظهورها على شكل سلسلة مقالات في جريدة الأهرام المصرية عام 1959، خاصة بسبب أسلوب نجيب محفوظ الذي عُرف بجرأته في تناول قضايا شائكة. هذا الأسلوب لم يمر دون تبعات؛ فقد واجه الكاتب العديد من الانتقادات والمشاكل، وصلت إلى حد محاولة اغتياله سنة 1994.
المثير في الرواية، التي كانت وراء فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، هو التشابه الذي لاحظه البعض بين شخصيات القصة وقصص الأنبياء. كما أثارت سجالات واسعة منذ نشرها وحتى وفاة الأديب. جادل بعض معارضيها بأن شخصية “الجبلاوي” ترمز إلى الذات الإلهية، وهو ما نفاه محفوظ مؤكدًا أن الجبلاوي يمثل الدين وعرفة يمثل العلم.
وفقًا لتفسيره، فإن المجتمع فقد توازنه عندما تخلّى عن الدين المتمثل في أوامر الجبلاوي واعتمد كليًا على العلم الذي يمثله عرفة.
أما جدل آخر فقد نشأ نتيجة تأويل بعض النقاد لفساد شخصية “الناظر” على أنه إسقاط على نظام الحكم في عهد جمال عبد الناصر. لهذا السبب، مُنعت الرواية من النشر ككتاب داخل مصر آنذاك، قبل أن تُطبع بعد وفاة الكاتب بأربعة أشهر على يد دار الشروق عام 2006.
الرواية تعبّر عن عمل أدبي استثنائي يتجاوز الزمان والمكان، حيث تطرح قضايا اجتماعية تتكرر بتغير ظروف الحياة. الشخصيات المحورية مثل إدريس وأدهم تجسد جدلية الخير والشر، وتجعل الرواية تجربة إنسانية عالمية تجدد المفاهيم وفقاً لتغير الأزمنة والمجتمعات.

“أولاد حارتنا” حكاية رمزية تدور أحداثها في إحدى حارات القاهرة بصحراء المقطم، حيث يمتلك الجبلاوي، شخصية رمزية ذات هيبة وقداسة، بيتًا كبيرًا ينطلق منه أبناؤه إلى الحارة لتنظيمها وإدارتها.
مع تقدمه في العمر، قرر الجبلاوي اختيار أحد أبنائه، أدهم، ليكون المسؤول عن أمور الوقف في الحارة. أدهم، الذي نشأ مدللًا ومحبوبًا بسبب أمه السمراء التي فضلتها الجبلاوي على باقي نسائه، أثار ذلك التفضيل غضب شقيقه إدريس الذي تمرّد على القرار وطُرد من البيت الكبير. لكنه لم يتوقف عند هذا الحد، إذ استمر في محاولاته للإيقاع بأدهم حتى تسبب في طرده من البيت الكبير نتيجة مخالفته أوامر الجبلاوي بتحريض منه.
وهكذا تبدأ رحلة أدهم في الخروج إلى الحارة وفقدان النعيم الذي كان يعيشه. هنا تتبلور الملامح الرمزية للصراع بين الخير والشر، حيث يقتل أحد أبناء أدهم شقيقه، وتُظهر هذه الحلقة بداية تراجع القيم والتوصيات التي وضعها الجبلاوي لأبنائه وأحفاده. بمرور الوقت، تنقسم الحارة إلى ثلاثة أحياء كبيرة، ويخرج منها أبطال مختلفون على وجه الفترات المتباعدة بناءً على رغبة الجبلاوي في استعادة النظام ومحاربة الطغيان.
يظهر أول الأبطال، جبل، من قوم آل حمدان المضطهدين من قِبل الناظر. جبل الذي نجا من ظلم الناظر بفضل والدته التي أخفته في حفرة المياه، ينشأ لاحقًا في بيت الناظر نفسه بعد أن أعجبت به زوجته. لكنه ينقلب على الناظر عندما يدرك مظالمه، مدعيًا أن الجبلاوي كلفه بمهمة إصلاح الحارة. يتمكن جبل من إنهاء حكم الناظر وعصابته وإعادة العدل لفترة وجيزة قبل أن يموت وتعود الحارة مجددًا للصراعات.
ثم يظهر رفاعة، المكلَّف الثاني من الجبلاوي بإصلاح الحارة. إلا أن نهايته تأتي بعد أن يواجه فتوات الحارة الذين يسعون لاغتياله بسبب التفاف الناس حوله. وبعد مقتله، يعود جسده إلى البيت الكبير حيث يُدفن هناك، ما يمنحه هالة من القداسة.
لاحقًا يعيش أبناء آل جبل وآل رفاعة بفترة من السلام النسبي إلى أن يظهر حي الجرابيع المهمَّش الذي يعاني ظلم الفتوات. يظهر قاسم في ذلك الحي، وهو يتيم يعمل في رعي الأغنام ويميل للعزلة وتأمل الطبيعة. يكلفه الجبلاوي بإعادة التوازن والقضاء على الظلم، ليتمكن قاسم من توحيد أبناء الحي والسيطرة على الحارة وغرس قيم العدالة والخير. ولكنه يموت لاحقًا وتعقبه خلافات جديدة بين أتباعه.
مع تزايد الفوضى يظهر عرفة، شخصية مختلفة تمثل العلم والتجريب في عصر حديث. كان عرفة غريبًا عن الحارة، لا يؤمن بقصص الجبلاوي وأبنائه. يمتلئ بالحقد تجاه الجبلاوي ويتسلل إليه ليقتله. بموته تنتهي أسطورته في قلوب أهل الحارة، وتبدأ مرحلة جديدة تحت سيادة عرفة الذي يمثل العقلانية والعلم.
جلبت الرواية الكثير من المتاعب لنجيب محفوظ، وتم جرجته في المحاكم وتلقى تهديدات بالقتل، بعد أن تم ربط جميع أبطال الرواية برموز دينية؛ فـ ”الجبلاوي” هو الله، بينما ”أدهم” هو أدم، والرسول ”قاسم”، ابليس ”ادريس”، وموسى ”جبل” وعيسى ”رفاعة”، إلا أن الأديب المصري ظل ينفي ذلك إلى حين وفاته سنة 2006.