2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
كِتَاب أَثَار جَدَلا.. الْحَقِيقَة الغَائِبَة الَّتِي قَادَت الإِسْلَامِيَّيْنِ إِلَى اِغْتِيَالِ فُودَة (ح09)

” كتاب أثار جدلا” رحلة في عالم الأفكار الممنوعة، سلسة تنشر على شكل حلقات طيلة شهر رمضان في ”آشكاين”، تتناول مؤلفات خلقت ضجة كبيرة، في السياسة، في الدين، كما في قضايا اجتماعية.
هذه الكتب دفعت مؤلفيها أثمانًا باهظة، بلغت حد التكفير والتهديد بالقتل وتنفيذه أحيانا، وتارة أخرى تدخلت الرقابة وبقيت هذه المؤلفات ممنوعة من التداول لسنوات.
لكنها في المقابل أحدثت ثورة فكرية وخلخلت مفاهيم كانت بمثابة طابوهات لفترات طويلة.
سيكون قراء ومتابعو جريدة “آشكاين” على موعد مع هذه السلسلة طوال أيام شهر رمضان.
الحلقة التاسعة: “الحقيقة الغائبة”

يُعد كتاب “الحقيقة الغائبة” للكاتب والمفكر المصري فرج فودة (1945- 1992) أحد أهم الكتب التي صدرت في القرن العشرين، وأكثرها إثارة للجدل. فقد أثار الكتاب عاصفة من ردود الفعل الغاضبة من قبل الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي انتهت باغتيال فودة عام 1992.
لم يكن “الحقيقة الغائبة” مجرد كتاب، بل كان صرخة مدوية في وجه التطرف الديني، ودعوة جريئة إلى التفكير النقدي والتحرر من الأفكار الجامدة. وقد تصدى فودة في كتابه هذا لكتاب “الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج والذي كتبه عام 1980 ويحمل تأصيلا فكريا ومنهاجا للحركات الجهادية.
يتناول الكتاب العديد من القضايا الحساسة، مثل العلاقة بين الدين والدولة، وحرية التعبير، وحقوق المرأة، ومفهوم الجهاد.
ويدعو فودة إلى ضرورة التمييز بين الدين كعقيدة شخصية، والدين كمصدر للتشريع السياسي. ويرى أن الإسلام دين تسامح وعدالة، ولا يمكن أن يكون أداة للقمع والإرهاب.
واستند كتاب فرج فودة إلى تناول ما وصفه بـ”خطايا الحكم” في العصور الإسلامية الأولى، شملت الخلفاء الراشدين، الأمويين، والعباسيين.
ورأى فودة أن هذه الأخطاء خُفيت عمدًا تحت تأثير الإسلاميين، الذين اكتفوا بإظهار الجوانب الإيجابية لتلك الفترات التاريخية.
قُدِّم الكتاب عبر ثلاثة فصول تشمل كلًّا من الفترات المذكورة، بمقدمة وخاتمة، حيث توقَّف عند العصر العباسي، مفضلًا عدم الاستمرار بالرغم من زعمه أن لديه المزيد ليقوله.
لاقى فودة انتقادات لاذعة بسبب الطعن في الخلفاء الراشدين وانتقاص آرائهم، والتي يُجمِع كثير من المسلمين على رفعتها. يرى بعض الإسلاميين المعتدلين أن أفكاره مجرد أوهام موجودة في ذهن الكاتب ولا تستند إلى حقائق التاريخ، ويفضلون استخدام مصطلح “الأوهام الحاضرة” كبديل عن “الحقيقة الغائبة”، بينما يرى العلمانيون واليساريون المؤيدون للكتاب أنه عرض جانبًا من التاريخ الذي يكشف الطبيعة البشرية للحكام، بما في ذلك أخطاؤهم وقراراتهم غير العصماء، خلافًا للرؤية التي تحصرهم بقدسية مطلقة.
طرح المؤلف في كتابه أفكارًا مثل أن الإسلام دين وليس دولة، والشريعة وسيلة وليس غاية، مما يعني في نظره أن تطبيقها ليس إلزاميًا. كما تناول طرق اختيار الحكام والتباعد بين الفقهاء والسلاطين على مر التاريخ، معتبرًا أن تجاوز النصوص الشرعية في بعض المراحل دليل على أن الدين يُمارَس كشعائر لا كنظام حكم. لكن الإشكالية الكبرى تكمن في أسلوب فودة الانتقائي للنصوص، حيث تم تفسيرها بمعزل عن سياقها وروحها الأصلية.
وفقًا لفودة، فإن نظام الحكم الإسلامي نظام قبلي وغير واضح المعالم، مما دفعه لانتقاد الدعوات لإقامة دولة إسلامية معاصرًا. كما اتهم المدافعين عن هذا النظام بعدم الاجتهاد المناسب لفهم النصوص الدينية وتحديث تطبيقاتها.
يرى مؤيدو أطروحات فودة أنه لم ينكر الشريعة ذاتها بقدر ما شكك في جدوى تطبيقها في زمننا الحالي. واستدلوا باضطهاد العديد من العلماء عبر التاريخ مثل الإمام مالك وأبي حنيفة خلال العباسيين. بينما يشير منتقدوه إلى اجتزائه أحداثًا تاريخية لإثبات وجهات نظره الشخصية، مثل استشهاده بتصرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين عطل حد السرقة خلال عام الرمادة.
ويعتبر فودة أن التنوُّع في طرق اختيار الخلفاء يشير إلى عدم وجود طريقة شرعية واحدة، ويدعو إلى اعتراف بشرعية الانتخابات المعاصرة، فيما يعترض خصومه المتشددون باعتبار طرق اختيار الخلفاء الراشدين هي الوحيدة المعتمدة والمعتبرة شرعيًا.
ازدادت حدة الصراع بين تيارات متناقضة؛ فريق يقوده فودة يرفع لواء العقلانية والنقد التاريخي، وجموع من الإسلاميين انتقدت ما عدّته تطاولًا على المقدسات والرموز الإسلامية.
شنت هجومًا قاسيًا عليه مطلقةً عليه تهمة الردّة. هذا الاتهام أدى إلى تفجر الغضب، حتى قُتل فودة في الثامن من يونيو 1992 على يد شخصَيْن من الجماعة الإسلامية أمام مكتبه.
أثار اغتيال فودة جدلاً واسعًا؛ حيث اعتبره العلمانيون استغلالاً لحادث فردي للتشهير بالإسلام نفسه عبر مهاجمة المتطرفين، بينما رأى الإسلاميون المعتدلون أن اغتياله كان خطأً جسيما يجب ألا يتكرر، مؤكدين على ضرورة إعلاء الحوار والاختلاف الفكري بدلًا من العنف والإقصاء.
تكمن أهمية “الحقيقة الغائبة” في جرأة فودة في طرح أفكاره، وفي قدرته على تفكيك الخطاب الديني المتطرف، وفي دفاعه المستميت عن قيم الحرية والديمقراطية.
وقد ساهم الكتاب في إثارة نقاش واسع حول دور الدين في المجتمع، وفي تسليط الضوء على خطورة التطرف الديني.
أثار الكتاب ردود فعل متباينة، حيث أشاد به العديد من المثقفين والمفكرين، واعتبروه كتابًا تنويريًا ضروريًا في مواجهة التطرف. في المقابل، شنّت الجماعات الإسلامية المتطرفة حملة شعواء ضد فودة، واتهمته بالكفر والإلحاد.
رغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على اغتياله، لا يزال فكر فرج فودة حاضرًا بقوة في النقاشات الفكرية والسياسية في العالم العربي. وقد تحول “الحقيقة الغائبة” إلى أيقونة في الدفاع عن حرية التعبير والتفكير، وإلى مرجع أساسي لكل من يسعى إلى فهم العلاقة بين الدين والسياسة.