لماذا وإلى أين ؟

”كِتَاب أَثَار جَدَلَا”: الفِتْنَة.. اِقْتِتَال الصَّحَابَة فِيمَا بَيْنَهُمْ بَعْدَ مَوْت الرَّسُول (ح11)

” كتاب أثار جدلا” رحلة في عالم الأفكار الممنوعة، سلسة تنشر على شكل حلقات طيلة شهر رمضان في ”آشكاين”، تتناول مؤلفات خلقت ضجة كبيرة، في السياسة، في الدين، كما في قضايا اجتماعية.

هذه الكتب دفعت مؤلفيها أثمانًا باهظة، بلغت حد التكفير والتهديد بالقتل وتنفيذه أحيانا، وتارة أخرى تدخلت الرقابة وبقيت هذه المؤلفات ممنوعة من التداول لسنوات.

لكنها في المقابل أحدثت ثورة فكرية وخلخلت مفاهيم كانت بمثابة طابوهات لفترات طويلة.

سيكون قراء ومتابعو جريدة “آشكاين” على موعد مع هذه السلسلة طوال أيام شهر رمضان.

الحلقة11: الفتنة

يعتبر كتاب “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر” للمؤرخ التونسي هشام جعيط (1935-2021)، من أهم الدراسات التي تناولت فترة الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي.

ويتناول المؤلف فترة حساسة في تاريخ الإسلام، وهي المرحلة التي شهدت انقسامًا وصراعًا بين المسلمين بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان، وما تلاها من أحداث جسام أدت إلى ظهور الفرق الإسلامية.

اعتمد جعيط في كتابه على منهجية تاريخية تحليلية، حيث قام بدراسة معمقة للمصادر التاريخية المتوفرة، مع التركيز على تحليل الأسباب والدوافع التي أدت إلى وقوع الفتنة. وقد حاول جعيط تقديم رؤية موضوعية للأحداث، بعيدًا عن التحيزات الطائفية والمذهبية.

ويرى جعيط أن الفتنة لم تكن مجرد صراع على السلطة، بل كانت نتاجًا لتراكمات اجتماعية وسياسية واقتصادية. وقد أشار إلى عدة عوامل ساهمت في وقوع الفتنة، مثل الخلافات حول توزيع الثروة والسلطة، الصراعات القبلية، والتباينات في فهم الدين وتطبيقه.

قام جعيط، في مؤلفه ”الفتنة”، بتحليل شخصيات ”الفتنة” الرئيسية، مثل عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعائشة بنت أبي بكر، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد حاول فهم دوافعهم وأفعالهم في سياق الظروف التاريخية التي عاشوا فيها.

ويرى جعيط أن الفتنة كان لها نتائج وخيمة على المجتمع الإسلامي، حيث أدت لانقسام المسلمين إلى فرق متناحرة، وظهور الفرق والطوائف الإسلامية.

يعتبر جعيط أن الفتنة ما زالت حاضرة في الوعي الإسلامي، وتشكّل إحدى علامات الصراع الدائر، لاسيّما بواعثها وتعقيداتها وتشابكها واستغلال القوى الكبرى لها، وقد درس ذلك بخلفيّة المؤرخ الموضوعي، الذي حاول ربط الوقائع واستقراء الأحداث، واستنطاق المعلومات وغربلتها خارج دوائر الاصطفافات المُسبقة أو الانحيازات العقائدية والمذهبية، خصوصا محاولاً الابتعاد عن تأويلها.

يشير المؤلف إلى أن أحداث الفتنة دفعت أهل السنة لاحقًا إلى رفع مكانة الخلفاء الأربعة الأوائل (أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي) ووصفهم بالـ”راشدين”، لتغليف تلك الحقبة بهالة قدسية تعزز شرعيتها كامتداد لزمن النبوة.

من جهة أخرى، أدت هذه الفتنة إلى ظهور المذهب الشيعي الذي يرفض الاعتراف إلا بعلي كخليفة شرعي، وإلى انقسامات أخرى منها الخوارج الذين يُقصون شرعية عثمان وعلي.

هكذا، أصبحت الخلافة الراشدة، بحسب جعيط، خصوصًا عهد الصحابيين أبو بكر وعمر، هي المرجع المثالي في المخيلة السنية.

الكتاب ليس تاريخيًا محضًا وإنما يُعيد قراءة الحقبة غير المستقرة لفهم الجدل الدائر حول العلاقة بين السلطة الدينية والدولة في السياق الإسلامي. يكشف المؤلف أن النقاش حول شرعية الخلافة لم يهدأ حتى بعد سقوطها الرسمي على يد مصطفى كمال أتاتورك عام 1924.

يذهب جعيط إلى أن هذا النقاش يعكس انقسامًا عميقًا بين من يدعون إلى علمانية الدولة ومن يصممون على إسلاميتها. وهو الجدل ذاته الذي استبق كتاب الشيخ علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم”، الذي فصل فيه بين الحكم السياسي والخلافة، مدعيًا أن الخلافة مؤسسة سياسية لا دينية. وفي حين يجد العلمانيون في الفتنة أساسًا لنفي الطبيعة الدينية للخلافة بعد عهد الشيخين، يتمسك دعاة الإسلام السياسي بقراءتهم الخاصة التي تصر على ضرورة توحيد الدين والدولة.

يُظهر المؤلف هشام جعيط كيف امتزج السياسي بالديني طوال فترة الفتنة، حيث وظّفت الأطراف المتنازعة النصوص والمفاهيم الدينية لتعزيز مصالحها السياسية. فالخوارج على سبيل المثال اعتبروا قتل عثمان تنفيذًا لأحكام الله ولكنه افتقروا لرؤية واضحة لنظام بديل. بينما قاوم علي بن أبي طالب خصومه استنادًا إلى سابقيته في الإسلام، في حين أعلن معاوية طموحه للوصول للسلطة مستظلًا بمطالب الثأر لمقتل عثمان.

يضع الكاتب ترتيبًا للمراحل الرئيسية التي شهدتها فترة الفتنة: – تورط الخوارج في اغتيال عثمان وتأييدهم لعلي قبل أن ينقلبوا عليه بسبب قضية التحكيم. – خروج عائشة وطلحة والزبير ضد علي طلبًا بالثأر لعثمان وهزيمتهم في معركة الجمل. – معاوية ينافس علي بذريعة الثأر للخليفة المقتول، ليصبح الصراع بينهما نزاعًا محتدمًا بين مركزين سياسيين. – اغتيال علي وتولي معاوية للحكم الذي تحول لاحقًا إلى ملك وراثي تحت سيطرة بني أمية.

يؤكد المؤلف أن انتصار بني أمية لم يكن انتصارًا للإصلاح الذي رفعوا شعاره بادئ الأمر باسم “الثأر لعثمان”، لكنه أدى إلى تأسيس نظام وراثي أغفل قيم الإسلام الأولى. ومع ذلك، لا يغفل الكاتب الإشارة إلى الإنجازات التي حققتها الدولة الأموية من توسعات حضارية وعسكرية أسست لإمبراطورية إسلامية واسعة.

يعتبر كتاب “الفتنة” مرجعًا هامًا لفهم فترة الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي. وقد أثرى النقاش حول هذه الفترة، وتقديم رؤية جديدة للأحداث. كما أنه يعطي صورة أدق في فهم التحديات التي تواجه العالم الإسلامي اليوم.

باختصار، يقدم كتاب “الفتنة” لهشام جعيط دراسة متأنية وموضوعية لفترة حساسة في التاريخ الإسلامي، ويساهم في فهم أعمق لأسباب ودوافع ونتائج الفتنة الكبرى.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
ma liberté de penser
المعلق(ة)
13 مارس 2025 02:08

C’est étonnant que cet écrivain il n’a pas été au moins menacé , par les Barbus fanatiques et son livre brûlé , car les fanatiques ils n’aiment la vérité sur l’Islam politicien violent agressif anti-démocratique

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x