لماذا وإلى أين ؟

أساطير طنجة.. “وباء الحلوف” (ح 19)

أساطير طنجة، سلسلة يعدها الصحافي عبد الله الغول، تستكشف أغرب الحكايات الشعبية والأساطير التاريخية التي تدور في فلك مدينة طنجة… حلقاتها تجمع بين السرد الأسطوري والمعطيات التاريخية… تلتقون معها طيلة شهر رمضان في حلقات يومية مثيرة ومشوقة.

الحلقة 19:

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت طنجة مدينة تعج بالأجانب، حيث استوطنها تجار ودبلوماسيون أوروبيون، حاملين معهم عاداتهم وأساليب حياتهم، بما في ذلك تربية “الحلوف” أو الخنازير. على أطراف المدينة، بدأت بعض العائلات الأجنبية في إنشاء مزارع صغيرة لتربية هذه الحيوانات، غير عابئين بالمحرمات الدينية والاجتماعية التي تحكم المجتمع المغربي.

لم تلبث هذه المزارع أن تحولت إلى مصدر قلق للفلاحين المغاربة الذين عاشوا في القرى المحيطة بطنجة، إذ كانت الخنازير تُترك لترعى بحرية، فتجتاح الحقول وتقلب التربة وتلتهم المحاصيل، مسببة خسائر جسيمة للفلاحين الذين يعتمدون على زراعتهم لكسب قوت يومهم.

 وكما أشار الباحث يحيى بصراوي في دراسته “تربية الخنزير في مغرب القرن التاسع عشر: دراسة في تاريخ المحظورات”، فإن هذه الممارسة “تحولت من نشاط محدود محصور بين الأجانب إلى مشكلة اجتماعية واقتصادية أثارت استياء السكان المحليين، خصوصًا بعد أن بدأ بعض المغاربة في الانخراط فيها تحت إغراء الأرباح”.

في البداية، حاول الفلاحون التفاهم مع مُلّاك هذه الخنازير، لكنهم قوبلوا بالاستهزاء والرفض. لم يكن أمامهم سوى اللجوء إلى المخزن، السلطة الحاكمة آنذاك، لرفع شكواهم والمطالبة بوضع حد لهذه الفوضى. أرسل المخزن مبعوثيه للتحقيق، فاكتشفوا أن الخنازير لم تفسد الزراعة فحسب، بل باتت سببًا في توتر العلاقات بين المغاربة والأجانب المقيمين في المدينة.

تشير إحدى الرسائل الموجهة من محمد بن عبد السلام بن عبد الرحمن برقش، كاتب السلطات، إلى القائد العسكري محمد الخضر السلاوي إلى أن الأوروبيين بدأوا في تربية الخنازير في منطقة طنجة بحلول عام 1864، مما أثار استياء السكان المحليين. وبسبب الأضرار التي لحقت بالممتلكات وانتشار هذه الظاهرة، صدر قانون في عام 1868 لتنظيمها. وجاء في رسالة برقش:

“قبل أربع سنوات، سمحنا لمن يربي الخنازير بتصديرها، بشرط عدم العودة إلى هذه الممارسة. ولكننا سمعنا أن الظاهرة عادت للظهور وأصبحت أكثر انتشارًا، مما ألحق الضرر بالسكان، ولذلك قررنا إصدار قوانين جديدة لتقييدها والتخفيف من أضرارها.”

وفي هذا السياق، اجتمع ممثلون عن السلطات المغربية والأوروبية في طنجة في فبراير 1868، ونتج عن الاجتماع اتفاقية تهدف إلى الحد من انتشار تربية الخنازير، والتي تضمنت شروطا تتعلق بعدم السماح للأجانب بتربية أكثر من عدد محدد من الخنازير لكل شخص، تربية الخنازير في أماكن مخصصة بعيدًا عن المناطق السكنية، ويحظر رعيها في الأراضي العامة أو الأماكن القريبة من المدن، يُمنع نهائيًا دخول الخنازير إلى الأماكن المقدسة مثل المقابر، يتحمل مربو الخنازير المسؤولية الكاملة عن أي أضرار تلحق بالممتلكات الزراعية، وإذا وُجدت خنازير خارج أماكنها المخصصة، يحق للمزارعين أو السلطات التخلص منها دون تعويض أصحابها، و يُمنح مربو الخنازير فترة 60 يومًا لتصفية قطعانهم، وبعد انقضاء المهلة، يتم فرض غرامة قدرها 20 ريالًا مغربيًا على كل رأس خنزير لم يتم تصديره.

وبعد توقيع الاتفاق، قدم ممثلو الدول الأوروبية طلبًا للسماح لهم بتصدير الخنازير إلى جبل طارق وإسبانيا، ووافق السلطان على ذلك كحل نهائي للقضية. غير أن الوثائق التاريخية تشير إلى أن الدول الأوروبية سرعان ما بدأت في انتهاك الاتفاق.

ففي رسالة أرسلها المفوض الإيطالي إلى المسؤول المغربي عن الشؤون الخارجية، أكد أن السلطات الإيطالية أمرت ممثلها في ميناء العرائش بمنع مواطنيها من تربية الخنازير داخل المدينة أو في الحقول القريبة، ولكن في الوقت نفسه، اشترطت أن يتم تطبيق هذا الحظر أيضًا على رعايا الدول الأخرى. مما يوحي بأن الأوروبيين لم يكونوا ملتزمين تمامًا ببنود الاتفاق، بل سعوا لاستخدام أساليب دبلوماسية للتحايل عليه وضمان استمرار تربية الخنازير تحت ذرائع مختلفة.

ووفقًا لما أورده بصراوي، فإن المخزن كان في البداية مترددًا في اتخاذ موقف حاسم بسبب الضغوط الأوروبية، لكنه في النهاية استجاب لمطالب السكان، خاصة مع تزايد الحوادث التي تورطت فيها الخنازير في إتلاف الممتلكات الزراعية. 

وأمام تصاعد الغضب الشعبي، أصدر المخزن مرسومًا يحظر تربية الخنازير في طنجة ومحيطها، وأمر بإغلاق المزارع المخالفة. واجه القرار معارضة من بعض التجار الأوروبيين الذين احتجوا لدى قناصلتهم، لكن المخزن تمسك بموقفه، مدعومًا بإجماع السكان المحليين.

هكذا، انتهى عصر تربية الخنازير في طنجة، لكن الحكايات عن اجتياحها للحقول ظلت تُروى لأجيال، كذكرى لعصر شهد صراعًا بين الأعراف المحلية والعادات الأجنبية، وحيث انتصر المخزن لحماية مصالح فلاحين كانوا يرون في أرضهم مصدر حياتهم الوحيد.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x