لماذا وإلى أين ؟

أساطير طنجة.. رافعة التيتان وجِنّيُها المارد (ح 20)

أساطير طنجة، سلسلة يعدها الصحافي عبد الله الغول، تستكشف أغرب الحكايات الشعبية والأساطير التاريخية التي تدور في فلك مدينة طنجة… حلقاتها تجمع بين السرد الأسطوري والمعطيات التاريخية… تلتقون معها طيلة شهر رمضان في حلقات يومية مثيرة ومشوقة.

الحلقة 20 :

في ميناء طنجة، حيث يلتقي البحر بأطياف التاريخ العتيقة، كانت رافعة “التايتان” العملاقة واحدة من أبرز معالم المدينة. تلك الرافعة التي حملت تاريخًا طويلًا من الأساطير، حيث يذكر الدكتور حمزة المساري في مروياته “أحاديث من باب مرشان” أن أهل طنجة كانوا يعتقدون أن هذه الرافعة لم تكن مجرد آلة ميكانيكية، بل كانت مخلوقًا غريبًا يسكن في جوفها. 

وقد كانت الرافعة، في أعين سكان المدينة قديماً، ماردًا عجيبًا يتحكم في قوتها، ويتحكم في كل شيء حولها. كما وصفها المساري بأنها كانت “ملهمة الخوف والإعجاب” في الوقت نفسه، بل واعتقد الكثيرون أنها جزء من تلك الأساطير التي كان يتناقلها الأجداد حول الجن والأرواح.

بدأت قصة الرافعة حينما تم إرسالها إلى طنجة بعد زيارة إمبراطور “البروس” للمدينة في عام 1905. وكان الإمبراطور قد تأثر بشدة بجمال المدينة ورأى أنها تستحق ميناء يليق بعظمتها، فأرسل الرافعة الهيدروليكية العملاقة لتتولى رفع الأحجار الضخمة لبناء رصيف الميناء. 

ومنذ وصول الرافعة، أصبح الميناء يشهد حركة دؤوبة ومتواصلة، وكأن الرافعة كانت ترفع معها آمال المدينة وطموحات أهلها. ولكن مع مرور الزمن، أصبح هذا العمل الضخم الذي تحول من بناء الميناء إلى رفع القوارب والعبارات لإصلاحها، (أصبح) محاطًا بالغموض، وأصبح وجود الرافعة في الميناء جزءًا من الأسطورة التي ارتبطت بحياة السكان بطنجة.

وتحدث الدكتور حمزة المساري عن الإيمان الغريب الذي ربط الناس بهذه الرافعة، حيث كانوا يعتقدون أن الرافعة كانت تحتوي على مارد يسكن في قلبها، وكانوا يتداولون عن هذا المارد حكايات، حيث كان البعض يرى فيه رمزًا للقوة المظلمة التي تجلب المصائب، بينما كان آخرون يرونه رمزًا للخير الذي يحمي المدينة. هذا الاعتقاد العميق في الجن والمارد جعل الرافعة تصبح محورًا للحديث في مجالس طنجة، بين الكبار والصغار، النساء والرجال.

آنذاك كان يقال إن الفقهاء هم الوحيدون القادرون على إخراج هذا المارد، مما جعل الفتيان يتنافسون ويتجادلون حول من هو الفقيه الأكثر قدرة على إخراج هذا المخلوق الغريب الذي يسكن “رافعة التيتان”. فكان سكان الأحياء المختلفة يتراهنون حول من سيحقق هذا الإنجاز، وبينما كان يتحدث أهل “حومة بني يدر” عن الفقيه اسكيرج الذي كان يوصف بـ”صاعقة العلوم”، كان أهل حي دار البارود يتفاخرون بفقيههم المفرج، الذي كان يلقب بالكبريت الأحمر والسر الأفخر.

أما النسوة في طنجة، فكان لديهن تقاليد خاصة مرتبطة بالرافعة. ففي كل يوم جمعة، وعند مرورهن من “باب البحر” في اتجاه عقبة حي أمراح، كان بعضهن يتوقفن محدقين بالرافعة، وكان البعض منهن يدعو على المارد المقيم في الرافعة بالشر، أن :”ربي يخزيه، ويعذبو ويشقيه”. ثم يتوجسن خيفة من حلول مرض الطاعون الخبيث مع وصول الرافعة. يتذكرن أن مآسي المدينة كانت تدخل دائما من مينائها، إشارة إلى الطاعون الذي كان يزهق كل يوم الخمسين من الأرواح، حتى أنه نفذت الأكفان، وصار الناس يكفنون في الخرق والعمائم.

تذكر المساري أيضًا في مروياته أن هذا المعتقد بوجود مارد في الرافعة كان قد تأصل في نفوس الناس بعد أن اجتاحت المدينة مآسي كبيرة، مثل الطاعون الذي كان يقتل العشرات كل يوم. وكان سكان طنجة يربطون بين الرافعة والمصائب التي دخلت المدينة من خلال الميناء، وكانت ألسنة الناس تتداول الحديث عن الطاعون الذي جلبه المارد عبر هذا الميناء، مما زاد من شكوكهم حول هذه الآلة الضخمة.

وفي النهاية، تبقى رافعة “التايتان” أكثر من مجرد آلة ساهمت في بناء ميناء طنجة وصيانة عباراته وسفنه، فهي جزء من ذاكرة المدينة، وحكايات أهلها، وأسطورة لا تنتهي. فهي كانت جسرًا بين الماضي والمستقبل، بين الحقيقة والخيال، وبين العمل الشاق والروح الشعبية التي تغلف كل زاوية من زوايا المدينة.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x