2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
أساطير طنجة.. الطاعون الأسود (ح 21)

أساطير طنجة، سلسلة يعدها الصحافي عبد الله الغول، تستكشف أغرب الحكايات الشعبية والأساطير التاريخية التي تدور في فلك مدينة طنجة… حلقاتها تجمع بين السرد الأسطوري والمعطيات التاريخية… تلتقون معها طيلة شهر رمضان في حلقات يومية مثيرة ومشوقة.
الحلقة 21 :
في القرن الرابع عشر، كانت مدينة طنجة ميناءً حيويًا يربط بين شمال إفريقيا وأوروبا، حيث ازدهرت التجارة بفضل موقعها الاستراتيجي. إلا أن هذا الازدهار سرعان ما تعطل عندما وصلت موجة الطاعون الأسود إلى المدينة، حاملة معها الموت والمعاناة.
ووفقًا لما ذكرته الباحثة راشيل سينغر في دراستها حول تأثير الطاعون في المغرب العربي، فإن الطاعون انتشر عبر السفن التجارية التي حملت الجرذان المصابة، مما جعل طنجة، بحكم كونها ميناءً رئيسيًا، عرضة لهذا الوباء الفتاك.
بدأ المرض بالظهور في الميناء، حيث أصيب العمال بأعراض غريبة: حمى مرتفعة، وأورام سوداء مؤلمة، وضعف شديد. لم يكن الأهالي في البداية يدركون خطورة الوضع، إلى أن بدأ المرض ينتشر بسرعة غير مسبوقة، ليصيب أحياء المدينة بأكملها.
القنصل السويدي جاكوب غروبيرغ، الذي عاش في طنجة خلال وباء القرن التاسع عشر، وصف كيف كانت الحياة تتغير بسرعة خلال هذه الأزمات، حيث تعم الفوضى والخوف.
كانت ردود الفعل متنوعة، فبينما حاول البعض الفرار إلى المناطق الريفية المحيطة، لجأ آخرون إلى الصلاة والاعتماد على العلاجات التقليدية. ومع ذلك، لم تنجح هذه المحاولات في وقف انتشار المرض، الذي أودى بحياة عدد كبير من السكان، مخلفًا شوارع شبه خالية وأحياء موحشة. وقد أشار غروبيرغ أيضًا إلى دور السكان المحليين في مواجهة الأوبئة لاحقًا، من خلال تنظيم إجراءات الحجر الصحي وتقديم الدعم المجتمعي للمرضى.
خلال هذه الفترة، تراجعت التجارة بشكل كبير، حيث أصبحت طنجة معزولة عن العالم الخارجي. السفن توقفت عن القدوم، والتجار الذين كانوا ينقلون البضائع إلى أوروبا وشمال إفريقيا باتوا يخشون دخول المدينة. وبحسب دراسة “الطاعون في المغرب العربي: دعوة للتحرك”، فإن هذه الأزمات الصحية ساهمت في إعادة تشكيل المدن الساحلية اقتصاديًا واجتماعيًا.
الدكتور حمزة المساري، في مروياته “أحاديث من باب مرشان”، يحكي أن “النسوة كن يتوجسن خيفة من حلول مرض الطاعون الخبيث، ويتذكرن أن مآسي المدينة كانت تدخل دائما من مينائها، إشارة إلى الطاعون الذي كان يزهق كل يوم الخمسين من الأرواح، حتى أنه نفذت الأكفان، وصار الناس يكفنون في الخرق والعمائم، بل وفي الكاغد والأوراق. ثم ما تكاد تصل الجنائز إلى مقابر المدينة حتى يكون قد سقط من موكبها شخص أو شخصين في الطريق”.
ومع أن طنجة تكبدت خسائر فادحة في الأرواح والبنية الاجتماعية، إلا أنها استطاعت التعافي بمرور الزمن. ترك الطاعون أثرًا دائمًا على المدينة، ولكنه لم يقضِ على روحها. اليوم، تبقى هذه الأحداث جزءًا من تاريخ طنجة، شاهدة على قدرتها على الصمود في وجه التحديات الكبرى.