2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
كِتَاب أَثَار جَدَلا: ”1984”.. تُحفَة أدَبِية حَذَّرَت مِمَّا نعَيِشهُ اليَوْم (ح21)

” كتاب أثار جدلا” رحلة في عالم الأفكار الممنوعة، سلسة تنشر على شكل حلقات طيلة شهر رمضان في ”آشكاين”، تتناول مؤلفات خلقت ضجة كبيرة، في السياسة، في الدين، كما في قضايا اجتماعية.
هذه الكتب دفعت مؤلفيها أثمانًا باهظة، بلغت حد التكفير والتهديد بالقتل وتنفيذه أحيانا، وتارة أخرى تدخلت الرقابة وبقيت هذه المؤلفات ممنوعة من التداول لسنوات.
لكنها في المقابل أحدثت ثورة فكرية وخلخلت مفاهيم كانت بمثابة طابوهات لفترات طويلة.
سيكون قراء ومتابعو جريدة “آشكاين” على موعد مع هذه السلسلة طوال أيام شهر رمضان.
الحلقة21: 1984

تُعد رواية “1984” للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903-1950) واحدة من أهم الروايات في القرن العشرين، حيث تتناول موضوعات مثل الشمولية والمراقبة والقمع السياسي. نُشرت الرواية عام 1949، لكنها لا تزال ذات صلة كبيرة بواقعنا اليوم، حيث تحذر من مخاطر الأنظمة الشمولية التي تسعى للسيطرة على كل جوانب حياة الأفراد.
تدور أحداث رواية “1984” في مستقبل افتراضي يجسد فيه جورج أورويل هيمنة السلطة المطلقة ورقابتها الشاملة.
في عالم الرواية، تراقب شاشات التلفاز الأفراد في كل زاوية، والجميع يتجسس على بعضهم، ما يجعل الحريات شيئًا من الماضي. أما في عالمنا اليوم، فقد تطورت آليات المراقبة بشكل مختلف؛ إذ أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تجمع وتحلل كل تفاعل وتعليق وحركة نقوم بها عبر الإنترنت. تخدم هذه البيانات أنظمة معقدة للتنبؤ بسلوكياتنا وتفضيلاتنا، وتحوّل الفرد إلى مجرد “سلعة” توجه نزعاتها إلى المستفيدين من حملات التسويق أو الجهات السياسية، بما قد يؤدي إلى إفساد مفهوم الديمقراطية نفسه.
أورويل أدرك بخبرة أن الأنظمة القمعية تحتاج بشكل دائم إلى خلق أعداء وهميين، وأوضح في روايته كيف يمكن التلاعب بالرأي العام عبر الدعايات المستمرة. في وصفه لمشهد “دقيقتي الكراهية”، قدّم استشرافًا ثاقبًا لطبيعة الغوغاء السائدة اليوم.
فبطل الرواية، وينستون سميث، يحضر كرهًا أحد المشاهد العنيفة، لكنه يعترف بأن أكثر ما يخيفه ليس المشاركة الإلزامية بل استسلامه التلقائي لتلك المشاعر الجامحة من الكراهية والرغبة بالانتقام التي تجتاح الجميع كعدوى لا مفر منها. في عالمنا المعاصر، تنشط كيانات سياسية ودينية وتجارية في استغلال المشاعر وتهييجها، وهو ما صوره أورويل كجزء من الطبيعة البشرية القابلة للتواطؤ مع تلك الكراهية،
كما لاحظ وينستون في داخله، ما يجعلنا نُدرك أنه قد يكون من السهل أن نرى تلك المشاعر في أنفسنا أيضًا. أما “الأخ الأكبر”، فهو الرمز الأبرز في الرواية، مستلهمًا من صراعات الفاشية والشيوعية التي هيمنت على القرن العشرين.
يجمع أورويل بين السخف والقبح في شخصية الأخ الأكبر، مستندًا إلى تجربته الشخصية كمتطوع ضد الفاشية خلال الحرب الأهلية الإسبانية وإدراكه لاحقًا للفراغ الأخلاقي في الشيوعية الستالينية، التي لاحقت حتى حلفاءها وأبادت كل من وقف ضدها، بما في ذلك الفصيل الذي قاتل أورويل معه في الحرب.
ومن خلال خبراته، رأى أورويل بوضوح خداع أولئك المتعلقين بالأيديولوجيات لأنفسهم قبل غيرهم. واليوم، نرى أنظمة قومية وشعبوية متطرفة تستغل المشاعر الجماهيرية عبر التحريض والتأجيج، مستنسخة بذلك الممارسات الشمولية التي حذر منها أورويل.
لكن أكثر ما يلقي الرعب في النفس مما صوره أورويل هو محاولات السلطة الممنهجة لإفقار اللغة وإزالة المفردات والأفكار التي تعبر عن مشاعر الحرية والتمرد. يستهدفون الحقيقة ذاتها عبر قلب الواقع إلى سراب ونشر المغالطات بشكل يصعّب إدراك الحقيقة على الأفراد. خطوة تمرد وينستون الأولى كانت التهرب من رقابة الكاميرات وتدوين يومياته، مع إدراكه أن هذا الفعل وحده عقوبته الموت. تحت وطأة التعذيب لاحقًا، استسلم وأقر أخيرًا بأن “اثنين زائد اثنين يساوي خمسة”، ليُظهر مدى الهيمنة التي يمكن للنظام أن يمارسها على العقل البشري والذات الإنسانية، وكم يتطلب الأمر لسحق إرادة الفرد وطمس الحقيقة.
حتى الآن، تظل رواية “1984” وسيلة لفهم الطغيان وآلياته. بالرغم من أنها محظورة في بعض الدول، إلا أنها تواصل الانتشار والازدهار.
مبيعات الكتاب ارتفعت مؤخرًا بشكل ملحوظ حتى في الديمقراطيات الراسخة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والهند والصين، حيث ينشد القراء فهم واقعهم السياسي والاجتماعي من خلالها.
لا يمكن الفصل بين أورويل وأعماله؛ فقد كان رجلًا يعيش وفق قيمه. قاتل دفاعًا عن مبادئه ووصف العالم بجرأة دون تزويق.
كان لرواية “1984” تأثير كبير على الثقافة الشعبية، حيث استخدمت العديد من المفاهيم والمصطلحات التي وردت في الرواية في الحياة اليومية، مثل “الأخ الأكبر” و”شرطة الفكر”. كما ألهمت الرواية العديد من الأعمال الأدبية والسينمائية الأخرى.
لا تزال رواية “1984” ذات صلة كبيرة بواقعنا اليوم، حيث تحذر من مخاطر الأنظمة الشمولية التي تسعى للسيطرة على كل جوانب حياة الأفراد. تُعد الرواية تحذيرًا قويًا من مخاطر فقدان الحرية الفردية، وأهمية الدفاع عن الحق في التفكير والتعبير.