لماذا وإلى أين ؟

علاقة الخبرة بصناعة القرار: قراءة نقدية لكتاب “سوسيولوجيا الخبرة والخبراء” للسوسيولوجي المغربي الدكتور نور الدين لشكر

في ظل تسارع وتيرة التغيرات التي يشهدها العالم المعاصر، أصبحت المعرفة المتخصصة من الركائز الأساسية في إدارة الشأن العام. وفي هذا السياق، يقدم كتاب “سوسيولوجيا الخبرة والخبراء” للدكتور نور الدين لشكر رؤية نقدية عميقة لعلاقة الخبرة بصناعة القرار. إذ يُعيد المؤلف تأطير الخبرة ليس فقط كمجموعة من المعارف المكتسبة عبر التجربة، بل كأداة مؤسسية تشكل محورًا للتفاعل بين المعرفة العلمية والسلطة السياسية والميول الاقتصادية. يهدف هذا المقال إلى استكشاف العلاقة المعقدة بين الخبرة وصناعة القرار، مستندًا إلى الأفكار والمحاور التي تناولها الدكتور لشكر في فصول كتابه، مع تسليط الضوء على التحديات والمخاطر التي تنجم عن استخدام الخبرة كأداة لصناعة السياسات

يرى الدكتور نور الدين لشكر أن الخبرة تُعرَّف بأنها المعرفة العملية المستمدة من التجربة والتطبيق الميداني، وهي ليست مجرد تراكم للمعلومات بل هي تفاعل حيّ بين البحث الأكاديمي والواقع العملي. ففي ظل الدولة الحديثة، ارتفعت أهمية الخبرة لتصبح حجر الزاوية في دعم عملية صنع القرار، إذ يُستند إليها في صياغة السياسات العامة، وتوجيه الخطط التنموية. كما يُميز الكتاب بين ثلاثة أدوار رئيسية: الخبير الذي يقدم تحليلاً تقنيًا مبنيًا على الأدلة؛ المثقف الذي ينقد الواقع من منطلق حرية الفكر؛ والمستشار الذي يجمع بين الجانبين دون أن يحمل طابع التخصص المطلق.

يعرض الكتاب في فصوله الأولى والثانية العلاقة المتشابكة بين البحث العلمي والخبرة العملية، حيث يشير إلى أن المعرفة العلمية لا تُعدّ هدفًا قائمًا بذاته، بل تتحول إلى أداة تستخدم في تبرير القرارات السياسية. فبينما يُثري البحث الأكاديمي الإطار النظري، تُترجم الخبرة إلى توصيات عملية تُقدِّم لصناع القرار. ومع ذلك، يبرز التوتر هنا في أن هذا الدمج قد يؤدي أحيانًا إلى استغلال الخبرة لتلبية أجندات سياسية أو اقتصادية، ما يُضعف من حيادها ومصداقيتها.

يُسلّط الدكتور لشكر الضوء على أن التقنية، رغم كونها نتاجًا للبحث العلمي، ليست محايدة؛ إذ تُستخدم كأداة لإدارة وتوجيه السياسات. هنا يظهر ما يُعرف بـ”التقنوقراطية”، حيث يصبح الخبير التقني – الذي يُطبق المعرفة دون الخوض في الأبعاد الاجتماعية العميقة – وسيطًا في عملية اتخاذ القرار. تُظهر المعضلة أن الاعتماد المفرط على الحلول التقنية قد يُقلل من دور التأمل النقدي، ويُحول الخبرة إلى سلعة تُباع وتُشترى وفق معايير اقتصادية تُضعف استقلاليتها

يرى الكتاب أن مراكز الأبحاث ومكاتب الاستشارات قد تحولت إلى مؤسسات ذات نفوذ متزايد في صياغة السياسات، خاصة في النظم الغربية حيث يُدمج بين البحث الأكاديمي والخبرة العملية. وعلى النقيض، يعاني العالم العربي من ضعف التمويل والتأطير المؤسسي مما يُقلل من تأثير مراكز الخبرة المحلية. كما يناقش المؤلف مسألة استقلالية الخبير؛ فبينما يُفترض أن يكون الخبير مستقلًا عن الضغوط المالية والسياسية، فإن الواقع يشير إلى أن كثيرًا من توصياته قد تُستخدم لتبرير قرارات مُتخذة سلفًا أو لتوجيه السياسات بما يخدم مصالح الجهات الممولة.

يطرح الكتاب تساؤلًا محوريًا حول ما إذا كانت الخبرة تُعتبر أداة لدعم العملية الديمقراطية أم أنها تؤدي إلى تهميش صوت المواطن. ففي بعض الحالات، يُستبدل دور صانع القرار السياسي بتوصيات الخبراء، مما يخلق فجوة بين النخب العلمية والجماهير. وفي ظل الأزمات، كما حدث خلال جائحة كورونا، قد تتخذ الحكومات قراراتها بناءً على آراء الخبراء دون مشاركة فعالة من المواطنين، ما يؤدي إلى إحساس بالابتعاد عن العملية الديمقراطية. هنا يدعو الدكتور لشكر إلى ضرورة تطوير آليات علمية تُشرك المجتمع المدني والجهات الأكاديمية لضمان أن تُستخدم الخبرة كأداة دعم للقرار الديموقراطي.

يتضح من خلال قراءة في كتاب “سوسيولوجيا الخبرة والخبراء” أن العلاقة بين الخبرة وصناعة القرار تتسم بالتعقيد والتشابك؛ فهي ليست مجرد عملية نقل للمعلومات، بل هي تفاعل ديناميكي بين المعرفة والسلطة. في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تعزيز استقلالية الخبراء من خلال أطر قانونية وأخلاقية تضمن حيادهم ومصداقيتهم، مع ضرورة إشراك المواطنين في عملية اتخاذ القرار للحفاظ على الطابع الديمقراطي حيث تظل التحديات المتمثلة في تأثير التمويل الخارجي والضغوط السياسية موضوعًا أساسيًا يستدعي اهتمام الباحثين وصناع القرار على حد سواء، وذلك لضمان أن تُستخدم الخبرة في خدمة المصلحة العامة وتعزيز التنمية الشاملة.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x