لماذا وإلى أين ؟

عاش الوداد .. عاش الرجاء

يبدو أن أبرز سمة تميز الصداقة التي تنسج خيوطها بمدرجات ملاعب كرة القدم أنها محدودة في الزمان و المكان و تكاد تكون افتراضية بمعنى من المعاني و تبدأ في الغالب مع صافرة بداية المباريات أو بعدها بقليل و تنتهي مع صافرة النهاية أو قبلها بقليل. هذه هي القاعدة العامة و إن كانت هناك حالات يتوقف فيها التواصل في أي وقت و لأكثر من سبب و خاصة عندما يتضح بأن الطرف الآخر ما هو في واقع الأمر إلا “عدو” وضعته الأقدار على يمينك أو على يسارك مباشرة. و طبعا في هذه الحالة، و بسبب تنافر المشاعر و الولاءات و جنوح البعض لتغذية الكراهية المجانية و ما قد ينجم عنها من أعمال عنف داخل الملعب و بمحيطه، تتحول صداقة التسعين دقيقة إلى قنبلة موقوتة و تصبح الغاية الأسمى هي النفاذ بالجلد و العودة إلى البيت بأسنان كاملة غير منقوصة و عظام خالية من الكسور أو الشقوق مع احتفاظ العينين بلونهما الأصلي و احتفاظ الأنف بشكله المستقيم.

في هذا السياق، أذكر جيدا كيف أن جارا لي بمركب رياضي لم تسعفه ألوان ملابسي في تحديد اتجاه رياح قلبي فاضطر إلى البحث عن تصنيفي منذ انطلاق أحد ديربيات الدارالبضاء  حتى يقرر دون تأخير ما إذا كانت صداقتنا مؤهلة للتمديد أم لا فرمى على وجهي السؤال الكلاسيكي : هل أنت ودادي أم رجاوي ؟

لم يتأخر الرد و أجبته بأن قلبي يتسع لهما معا و بأني لم أميز بينهما طوال حياتي. فهما يمثلان مدينتي، كما أني لا أجد لا في سحنات وجوه  اللاعبين و لا في طريقة لعبهم ما يوحي بأننا أمام مجموعتين بشريتين مختلفتين جينيا و عرقيا و دينيا و ثقافيا أو ما يوحي بأننا أمام قبيلتين أو عقليتين متمايزتين حد العداء المتبادل. الأقمصة وحدها هي العامل المميز بينهما، و من غير المستبعد أن ينتقل جزء من لاعبي الفريقين للعب لحساب المعسكر الآخر في القادم من المواسم في زمن أصبح فيه لكرة القدم بورصة خاصة بها : ميركاتو الصيف و ميركاتو الشتاء . أما التمادي في الادعاء بأن معقل الرجاء هو درب السلطان و بأن معقل الوداد هو المدينة القديمة فيظل سلوكا مضللا مادام أن هذه المعلومة تفتقر إلى الدقة و الإحصاءات و مادام أن أحياء العاصمة الاقتصادية تعد بالعشرات و مادام أن أنصار الفريقين يوجدون في كل مكان داخل الوطن و خارجه. الأكثر من هذا و ذاك أن المرحوم الأب جيكو كان من مؤسسي نادي الوداد قبل أن يفك ارتباطه به و يقدم على تأسيس نادي الرجاء، كما لا أعتقد بأن هناك من المغاربة من يتمنى لأحدهما الإخفاق عندما يمثل البلاد في الاستحقاقات الكروية الدولية.

لم يظهر على محيا الصديق ما يفيد اقتناعه بكلامي و اكتفى بطرح سؤال جديد : هل أفهم من كلامك أن نتيجة ديربي اليوم لا تهمك ؟

لم أتردد من جديد في التعبير عن حيادي الذي بدا مشروطا هذه المرة حيث أجبته قائلا :  فعلا النتيجة لا تهمني ما دمنا في الربع الأول من عمر البطولة. أنا اليوم أمني النفس فقط بفرجة في المستوى علها تنسىني عناء السفر و شدة الازدحام مع الاعتراف بأن ثمة ديربيات أتمنى فيها الفوز للفريق الذي يوقع على أحسن أداء أو للفريق الأكثر حاجة للنقاط الثلاث في حال كان هذا الفريق الأقرب إلى التنافس على لقب البطولة أو على المراكز المؤهلة للمشاركة في المنافسات القارية أو العربية.

تعمقت أزمة الصديق فاضطر إلى مصارحتي : هذه أول مرة أصادف فيها بيضاويا يتبنى هذه المقاربة تجاه الناديين.

آنذاك، و بدون وعي مني، وجدتني أبعثر الأوراق أكثر فأكثر حيث عقبت على استنتاجه قائلا : أنا لا أكتفي بحب فرق مسقط رأسي و فضاء نشأتي بما فيها فريقا الراسينغ و الاتحاد البيضاويين. لي عشق خاص أيضا للنادي الممثل لمنطقة جذوري على الرغم من تذبذب نتائجه و تواضع تاريخه و توفره على لقب وحيد و إن كان قد أنجب أسماء من العيار الثقيل أبلت البلاء الحسن حتى على مستوى المنتخب الوطني.

أتعاطف كذلك مع النادي الممثل للمدينة التي احتضنتني قبل سنوات لأسباب مهنية. مازلت حتى الآن استنشق هواء هذه الحاضرة و آكل من خيراتها و أتفاعل مع أهلها في انسجام تام، و امتناعي عن إبداء أي اهتمام بفريقها الأول ـ و هو فريق يضرب ألف حساب ـ سيعتبر حتما ضربا من ضروب الجحود و التنكر لما قدمته لي.

و كيف لقلبي أن يغلق الياب في وجه فريق عريق من طينة “الماص” الذي شكل في فترة من الفترات ـ إلى جانب فريق شباب المحمدية ـ مزود الفريق الوطني الرئيسي باللاعبين على مستوى كل الخطوط تقريبا ؟

أما رجاء بني ملال فكيف لي أن أتجاهله و لي أخ لم تلده أمي يذوب في عشقه و يرافقه أينما حل و ارتحل مهما كلفه ذلك من مال و وقت بل و مستعد للتضحية بوظيفته المرموقة للتفرغ لتشجيعه و مناصرته و تأطير مناصريه المتشددين مدى الحياة ؟ أليس من أبسط واجبات الصداقة الحقيقية التماهي مع الأصدقاء فيما يعشقون ؟ و ما دامت صداقتنا على سكة سليمة سأظل ـ إسوة بصديقي الملالي ـ أنزع قميصي فرحا كلما أفلح هجوم الفريق في التسجيل. أما إذا قدر لعلاقتنا أن تنتهي فسأسترجع أقمصتي و سيصدر عني في الوقت المناسب بلاغ شخصي بشأن مستقبل علاقتي بفريق أحمد نجاح و الولد 1 و الولد 2.

و من الطبيعي أيضا أن أتمنى التألق الدائم لفريقي اتحاد طنجة و المغرب التطواني لا لشيء إلا لإسعاد جماهيرهما الحاضرة على الدوام و التي تشكل مدرسة في  التحضر و الرقي و الانضباط و أينما ذهبت تترك أثرا طيبا. فهل من العدل إذن أن تغادر هذه الجماهير مدرجات الملاعب و هي منفطرة القلب و مكسورة الخاطر ؟

و على الرغم من أن قلبي تقلب سبع مرات منذ أن كان الفراق مصير علاقتي بمحبوبة مراهقتي فإن الإخلاص لفريق مدينتها الأصلية ظل مستمرا، و إلى يومنا هذا ما زلت أسترجع ذكراها الجميلة من خلال تتبع أخباره و  كلي أمل في أن يسعفه الحظ ذات موسم في مغادرة أحد الأقسام السفلية الذي ظل قابعا به منذ نهاية حرب الفيتنام.

أتعاطف أيضا مع الفريق العسكري الذي لا أعتبره أحد ممثلي العاصمة على الساحة الكروية فحسب بل أعده فريقا بامتداد وطني مادام أنه يمثل أيضا مؤسسة دستورية تحظى باحترام كل المغاربة.

و لا غرو أن تحتل فرق من قبيل نهضة الزمامرة و الفتح الرباطي و نهضة بركان حيزا بقلبي كذلك بالنظر إلى ما أبان عنه مسيرو هذه الأندية من قدرة هائلة على التدبير و استشراف المستقبل و هو الأمر الذي يفسر استمرار تميزها و استقرار نتائجها الإيجابية.

و بكل تأكيد، لن يهدأ لي بال حتى تعود فرق المولودية الوجدية و الكوكب المراكشي و شباب المسيرة و أولمبيك خريبكة و النادي القنيطري إلى حظيرة القسم الوطني الأول، إذ لا يعقل أن تظل الحواضر المحترمة التي تمثلها هذه الأندية بمنأى عن التنافس الذي يعرفه قسم الصفوة.

كما أكن حبا خاصا كذلك لكل الأندية الأجنبية التي لعب أو  يلعب لها عدد من لاعبينا المحترفين بما فيها أندية باناثينايكوس اليوناني و أهلي طرابلس الليبي و حمام الأنف التونسي و ضمك السعودي.  

بعد ذلك توقفت عن الكلام قليلا لالتقاط الأنفاس فاستغل صديقي فترة صمتي ليوجه لي سؤالا آخر فاحت منه رائحة السخرية إذ قال لي : هل حصرت لائحة فرقك  المفضلة أم هناك المزيد ؟

كان ردي هذه المرة أسرع من سابقيه  : آه، لقد فاتني أن أذكر بأن إعجابي بثلة من المدربين المغاربة و الأجانب الكبار يجعلني لا أتردد في التعاطف أيضا  مع كل الأندية التي يشرفون على تدريبها.

أما الفرق التي أكرهها فهي تلك التي يتعمد لاعبوها إضاعة الوقت عندما يكونون منتصرين أو تلك التي يتعمد مدربوها إقحام لاعب أو أكثر مع دخول المقابلة في دقائقها الأخيرة لا لشيء إلا لكسر إيقاع اللعب و الحفاظ على الامتياز … “و للي فيه الفز يقفز”  !!!!!

في تلك اللحظة بالذات، و بعدما اتضح لصديقي و بشكل نهائي بأن الحديث معي “حرام” مادام أن مفهومي للتعاطف الكروي يشذ عن القاعدة بل و مرفوض أيضا ، أشاح بوجهه عني و راح يبحث عن صداقة جديدة مع الجار المتواجد على الطرف الآخر و كله أمل في أن يكون الحديث الجديد أكثر فائدة.

وددت لو تمدد التواصل لدقائق إضافية حتى أتمكن من سرد أسماء باقي فرقي الأثيرة لكن للأسف لم يمنحني “الصديق” فرصة إتمام “محاضرتي” و التي لم أهدف من ورائها سوى “تنوير” الرأي العام من خلاله !

ملحوظة إضافية : هذا الصنف من الصداقة أصبح جد شائع أيضا بالمقاهي التي تبث مباريات كرة القدم مع تسجيل فرق مثير للانتباه، ذلك أن عددا لا يستهان به من رواد هذه الأخيرة لا يجدون غضاضة في حجز مقعد لصديق لم يحضر بعد أو لن يحضر أبدا. و مباشرة بعد صافرة النهاية يتوقف تجاذب الحديث بشكل تلقائي، و مع توقفه تنتهي التعليقات و التحليلات و الإشادات و المؤاخذات و الانتقادات و الهتافات و التصفيقات و التحفيزات و الشتائم و الكلام البذيء … و حتى دخان السجائر في أحيان كثيرة و يبدأ التجاهل المتبادل، و كل “صديق” يؤدي ثمن ما استهلكه لا غير  … و إلى اللقاء في استحقاق كروي وطني أو دولي قادم ! هذا هو الروتين العام.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x