2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

أساطير طنجة، سلسلة يعدها الصحافي عبد الله الغول، تستكشف أغرب الحكايات الشعبية والأساطير التاريخية التي تدور في فلك مدينة طنجة… حلقاتها تجمع بين السرد الأسطوري والمعطيات التاريخية… تلتقون معها طيلة شهر رمضان في حلقات يومية مثيرة ومشوقة.
الحلقة 28 :
في الأزمنة الغابرة، حينما كانت الرحلة إلى مكة المكرمة مغامرة محفوفة بالمخاطر، لم يكن الحج مجرد عبادة روحانية، بل تحديًا جسديًا وخطرًا يهدد حياة السائرين على طرق القوافل.
في مدينة طنجة، كان للحجاج نصيب من هذا الخطر، فقد كانت الطرق الصحراوية تعج بقطاع الطرق المعروفين بـ”هب الريح”، الذين اشتهروا بمهارتهم في التخفي والانقضاض على القوافل مثل صقور جوارح، ينهبون ويستبيحون ما يعترض طريقهم بلا هوادة، لينطلقوا هاربين بعدها بسرعة الريح.
“هب الريح” وسمعة الرعب
يحكي الدكتور حمزة المساري في مروياته “أحاديث من باب مرشان”، أن هؤلاء اللصوص لم يكونوا مجرد عصابة عادية؛ كانوا أشبه بأسطورة حية. خبرتهم في قراءة آثار القوافل تفوق الوصف. كان بإمكانهم، من مجرد النظر إلى روث البعير، معرفة عدد القوافل المارة واتجاهها وحتى الزمن الذي مضت فيه. حين تستريح القوافل ليلاً تحت النجوم، يظهرون فجأة من تحت كثبان الرمال مثل غواصات تشق المحيط، ينقضّون على الحجاج، ينهالون عليهم بالهراوات الغليظة، ويغادرون تاركين وراءهم دمارًا وأشلاء، كأبطال أساطير شريرة.
لكن سمعة أهل طنجة، وحذر قطاع الطرق منهم، كانت تشكل حالة استثنائية. فقد عرف عنهم شجاعتهم واستعدادهم لأي مواجهة، خاصة بعدما صار حمل المسدسات تقليدًا لا غنى عنه عند حجاج المدينة.
المسدسات: زاد الحج الجديد
بدأت القصة عندما عاد أحد حجاج طنجة إلى مدينته بجمجمة شبه محطمة، بعد أن أفلت من كمين “هب الريح”. هذا المشهد المروع زرع الرعب في قلوب أهل المدينة، لكنه زرع فيهم أيضًا فكرة التسلح كوسيلة للدفاع عن النفس. وسرعان ما أصبح اقتناء المسدسات جزءًا من زاد الحج، لا يقل أهمية عن المحرمات والفوطات.
رغم شح الأسلحة في العالم آنذاك بسبب الحرب العالمية الثانية، كانت طنجة تستورد المسدسات من أوروبا، خصوصًا من منطقة أستورياس الإسبانية. ومن بين الأنواع التي انتشرت بين الحجاج، برزت مسدسات “ريمينغتون” ذات الفوهة الطويلة، التي لم تكن مجرد سلاح، بل أداة متعددة الاستخدامات؛ مطرقة لتثبيت أوتاد الخيام، أداة لحك الجلد المتعرق، وحتى مهمازًا يحفز البعير على السير. لكن أبرز ما اشتهرت به كان قدرتها على مواجهة “هب الريح”، إذ أثبتت دقتها في فلق رؤوس المعتدين وإرغامهم على الفرار.
رعاة البقر الطنجاويون
تحوّل حجاج طنجة إلى ما يشبه رعاة البقر في البراري الأمريكية، يتمنطقون مسدساتهم بثقة وفخر. كانوا يمارسون رياضة جديدة على الطريق؛ إطلاق النار على قطاع الطرق لتشتيت صفوفهم. ورغم أن مسدساتهم لم تحمل سوى خمس رصاصات، إلا أن دويّها كان كافيًا لإثارة الرعب في قلوب “هب الريح”.
وهكذا، لم تكن رحلة الحج بالنسبة لأهل طنجة مجرد عبادة، بل كانت ساحة مواجهة بين الإيمان والبطش. ومع كل عودة لحاج طنجاوي من مكة سالمًا، كان أهل المدينة يحتفون، ليس فقط بأداء الفريضة، بل أيضًا بانتصار الإرادة الإنسانية على سطوة الخوف.