2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

د. محمد شقير
في سابقة سياسية غير معهودة بين البلدين ، غابت رسالة التهنئة الملكية المغربية الموجهة إلى الرئيس التونسي بمناسبة الذكرى 69 لعيد استقلال بلاده. حيث لا يمكن اعتبار هذا “الصمت الرسمي ” مجرد سهو بروتوكولي أو دبلوماسي عابر، بل يحمل في طياته مؤشر على مستوى التدهور غير المسبوق في العلاقات بين الدولتين . ولعل ما يكرس هذا المعطى هو أنه بعد أيام فقط من عدم قيام العاهل المغربي ببعث أي برقية تهنئة ، صدر بلاغ من الديوان الملكي يعلن عن تعيين السفير السابق بتونس حسن طارق على رأس مؤسسة “وسيط المملكة”، مما يعكس هوة الخلاف السياسي بين البلدين و التي اتسعت منذ استقبال الرئيس التونسي قيس سعيد لرئيس جبهة “البوليساريو”، إبراهيم غالي في مطار “تونس قرطاج” بمراسيم استقبال “رئيس دولة”، وذلك على هامش مؤتمر منتدى طوكيو للتنمية الإفريقية) الذي انعقد في تونس في غشت 2022.
1-عدم التهنئة الملكية كانعكاس للجفاء السياسي بين البلدين
تعتبر التهاني الرسمية في المناسبات الوطنية تقليدًا دبلوماسيًا يعكس مستوى العلاقات بين الدول، حيث تستمر هذه التهاني كأداة للتواصل الدبلوماسي حتى في فترة الأزمات أحيانا. وبالتالي ، فقد دأب الديوان الملكي على توجيه برقيات تهنئة إلى الرؤساء التونسيين، حتى في أوج الفتور الدبلوماسي بين الدولتين . لكن ما حدث خلال 20 مارس 2025 ، شكل تحولاً لافتاً في العلاقات الثنائية بين البلدين . إذ خلت قصاصات وكالة المغرب العربي للأنباء من أي إشارة إلى تهنئة تقليدية بمناسبة الذكرى 69 لاستقلال تونس ، كما لم تسجل أي مراسلة رسمية من الديوان الملكي بهذا الشأن. مما جعل بعض المراقبين يرى في غياب برقية التهنئة الملكية للرئيس التونسي استمرارا للأزمة السياسية الصامتة بين الدولتين ، خاصة مع اختيار الرئاسة التونسية الحالية الانقلاب في علاقاتها تجاه المغرب في قضية حساسة تتعلق بالصحراء، وتوجهها لدعم السياسات العدائية الجزائرية تجاه المغرب. فهذا المنعطف السياسي في تاريخ العلاقات بين البلدين عاكس المسار الإيجابي الذي عرفته العلاقات بين البلدين منذ استقلال البلدين ووقوف المغرب إلى جانب تونس في فترات صعبة: ففي عام 1980، حين شهدت تونس في إطار التوتر السياسي مع ليبيا بقيادة الرئيس السابق معمر القذافي ، قيام مجموعة مسلحة بالاستيلاء على مدينة قفصة بهدف الإطاحة بنظام الرئيس الحبيب بورقيبة الذي استنجد بالملك الحسن الثاني ، أبدى المغرب تضامنه مع تونس، و استعداده للدفاع عنها عسكريًا. وفي سنة 2014، تعرضت تونس لهجمات إرهابية أثرت على قطاع السياحة، فقام الملك محمد السادس بزيارة تونس للتعبير عن تضامنه، حيث جاب شوارع العاصمة والتقط الصور مع التونسيين.
ولعل هذا ما دفع بالعديد من التونسيين، إلى جانب دبلوماسيين سابقين ومفكرين، إلى استنكار المواقف الأخيرة للرئيس قيس سعيد والتي اعتبروها تحولًا عن السياسة الخارجية التونسية التقليدية. فهذه المواقف، وفقًا لهم، تمثل تراجعًا عن نهج تونس المعتاد في تجنب الانحياز في القضايا الإقليمية الحساسة كقضية الصحراء بالنسبة للمغرب. معتبرين بأن الرئيس قيس سعيد قد خرج عن النهج الذي سلكه سابقوه من الرؤساء الذين حرصوا على الحفاظ على علاقات قوية ومتينة مع المغرب. فقد كانت السياسة الخارجية لتونس تحت قيادة هؤلاء الرؤساء تتسم بالحياد تجاه قضية الصحراء المغربية، وهو ما ساهم في تعزيز التعاون بين البلدين.
من هنا فقد قرأ التغافل المغربي عن عدم إرسال ية برقية تهنئة بمناسبة تتعلق باستقلال وسيادة تونس فيه تعبيراً سياسيا مقصوداً عن استياء الرباط المتراكم من خيارات قيس سعيد الإقليمية، والتي انزاحت في نظر المغرب عن سياسة الحياد الإيجابي التي لطالما طبعت موقف تونس من قضية الصحراء المغربية كما أسس لها الرئيس التونسي السابق بورقيبة والملك الحسن الثاني. كما أن في هذه الخطوة إشارة سياسية بأن الأمر يتعلق بسيادة مملكة على غرار ما يتعلق بمناسبة وطنية في تاريخ تونس. وقد ظهر ذلك بالخصوص من خلال استدعاء المملكة لسفيرها لدى تونس حسن طارق، الذي سارع بالعودة إلى بلاده على متن رحلة خاصة للخطوط الملكية المغربية. بمعية أفراد أسرته وطاقم كبير من موظفي سفارة المملكة المغربية في تونس. في حين أعلن المغرب مقاطعة قمة طوكيو للتنمية في أفريقيا “تيكاد 8″ التي احتضنتها تونس يومي 27 و28 غشت 2022 في خطوة تشير إلى حجم الغضب المغربي من تصرف الرئيس التونسي، بينما أوردت وزارة الخارجية المغربية في بيانها ” أن قرار الاستدعاء الفوري لسفير المملكة بتونس للتشاور، يأتي عقب موقف هذا البلد في إطار مسلسل “تيكاد”، والذي جاء ليؤكد بشكل صارخ التوجه العدائي، لتونس التي ضاعفت المواقف والتصرفات السلبية تجاه المملكة المغربية ومصالحها العليا، وتصرف تونس في إطار “تيكاد” (منتدى التعاون الياباني الأفريقي) يؤكد هذا النهج بوضوح”. كما لفت بيان الخارجية المغربية إلى أن “تونس عملت على معاكسة رأي اليابان بخرق مسار التحضير للمنتدى والقواعد الموضوعة لذلك، وقررت بشكل أحادي دعوة الكيان الانفصالي”، معتبرة أن “الاستقبال الذي خصصه رئيس تونس لقائد الانفصاليين هو فعل خطير غير مسبوق، يؤذي كثيراً مشاعر الشعب المغربي وقواه الحية”. لتقرر تونس في إطار المعاملة بالمثل ، استدعاء سفيرها في الرباط، رداً على خطوة المغرب. معتبرة أن بيان المملكة المغربية ” تضمن تحاملًا غير مسبوق على تونس”.
2-التعيين الملكي لسفير المغرب بتونس وسيطا للمملكة كانعكاس للجمود الدبلوماسي
بعد أيام فقط من عدم قيام العاهل المغربي ببعث برقية تهنئة للرئيس قيس سعيد بمناسبة ذكرى استقلال تونس، صدر بلاغ من الديوان الملكي بتعيين، السفير المغربي السابق حسن طارق، على رأس مؤسسة “وسيط المملكة”، مما شكل نقطة النهاية الرسمية لمهامه كسفير للمملكة بتونس، وقطع فترة من الترقب دامت لأكثر من سنتين توسم فيها صناع القرار الدبلوماسي المغربي إمكانية حدوث تقارب بين المغرب وتونس بعد قطيعة دبلوماسية مستمرة منذ 2022، وذلك من خلال إمكانية تراجع الرئاسة التونسية عن نهجها فيما يتعلق بسياستها الخارجية اتجاه المملكة. وعلى الرغم من محاولات محدودة في إعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية ، التقى فيها رئيس الحكومة عزيز أخنوش وزير الخارجية التونسي السابق نبيل عمار في فرنسا، على هامش احتفال رسمي، ولقاء آخر جمع بين وزيري خارجية البلدين في إطار مجاملات دبلوماسية، فلم يكن لها أي أثر فعلي في تخفيف عمق التوتر السياسي بين البلدين .ذلك أنه بالإضافة إلى أن شغور منصب السفير المغربي في تونس لفترة طويلة لا يخلو من دلالات عاكسة لمسار الجمود الدبلوماسي بين المغرب وتونس، إلا أن تعيين السفير السابق في منصب جديد دون الاهتمام بتسمية من سيخلفه يمثل مؤشرا واضحا على أن صانع القرار الدبلوماسي بالمملكة أصبح لا يرى في الوقت الراهن أي جدوى من إعادة ملء هذا المنصب في ظل استمرار الأزمة السياسية التي تعرفها العلاقات الثنائية.
ويمكن أن نرجع هذا الجمود الدبلوماسي التي تعرفه العلاقات الثنائية إلى عدة عوامل من أهمها انخراط تونس، منذ تولي قيس سعيد الرئاسة في الأجندات الإقليمية للجزائر؛ ما جعل سياستها الخارجية تتسم بغياب التوازن الذي كان يميزها تاريخيا. خاصة ما يتعلق بقضية الصحراء التي تعتبر كأولوية ضمن السياسة الخارجية للمملكة وبوصلتها الأساسية. ولعل مما عزز من هذا الجمود انضمام تونس إلى تكتل ثلاثي تتزعمه الجزائر لفك عزلتها الدبلوماسية ومحاصرة المغرب من خلال محاولة تعويض تكتل الاتحاد المغاربي الذي يحتضن المغرب أمانته العامة بإنشاء تكتل مغاربي جديد، يركز على التعاون الأمني والسياسي والاقتصادي بين كل من تونس والجزائر، وهو ما قد يعيد رسم خريطة التحالفات في شمال إفريقيا .
فعلى الرغم من محاولة الرئيس الجزائري، عبدالمجيد تبون، ونظيره التونسي، قيس سعيد، توجيه خطاب طمأنة للدولتين المغربية والموريتانية، للتأكيد على أن التكتل الجديد ليس موجها ضد أحد وأنه “ليس بديلا عن اتحاد المغرب العربي وأنه لا نية لهما في إقصاء أحد من هذا ” فاستضافة تونس للاجتماع التأسيسي لهذا التكتل خلال أبريل 2024، وإصدار “وثيقة قرطاج”، شكل اصطفافا وتحالفا تونسيا جزائريا ضد المغرب بالخصوص.
من هنا يبدو أن المملكة لن تتراجع عن موقفها، بل ستكثف من انتقاداتها الضمنية للسياسة الخارجية التونسية، بعدما اقتنعت بأن الرئيس قيس سعيد اختار الاصطفاف إلى جانب الجزائر، الخصم الإقليمي للمغرب، في ما يتعلق بملف الصحراء، وأن خيارات الرئيس التونسي في الملف المغاربي لم تكن مجرد مواقف ارتجالية، بل هي جزء من استراتيجية تهدف إلى إعادة تموقع تونس إقليمياً في ظل وضع داخلي مأزوم، بعدما دخلت تونس مرحلة من العزلة السياسية والاقتصادية، ترافقت مع صعوبات تفاوضية مع صندوق النقد الدولي، واحتجاجات داخلية متزايدة. حيث شكلت الجزائر في خضم هذا السياق، حليفاً استراتيجياً جديداً لنظام قيس سعيد، من خلال دعم مالي وسياسي، مقابل مواقف داعمة لأطروحة الجزائر في الصحراء، الشيء الذي اعتُبر من طرف الرباط انقلاب على موقف تونسي تقليدي قائم على الحياد.
وبالتالي بأن استقبال غالي من طرف الرئيس التونسي لم يكن معزولاً عن مناخ تقارب أوسع بين النظامين، والذي ترجم في زيارات رسمية بين البلدين ومواقف علنية داعمة للجزائر في قضايا إقليمية حساسة. مما يعكس فقدان تونس لاستقلالية قرارها السياسي، حيث أصبحت متأثرة بشكل كبير بالتحولات التي تشهدها الجزائر داخليا وإقليميا. فسياسة تونس اتجاه المغرب لم تعد تقتصر على الخطاب السياسي فقط، بل أصبح يمتد إلى مواقفها في المحافل الدولية، بشكل ظهر جليا في بعض المواقف الأخيرة التي اعتبرت غير ودية تجاه المغرب كامتناع تونس المفاجئ وغير المبرر عن التصويت على قرار مجلس الأمن رقم 2602 المتعلق بالمسار السياسي والاممي لقضية الصحراء.
وبالتالي، يبدو أن المغرب قد اختار في علاقاته الدبلوماسية مع تونس نهج سياسة “الانتظار الاستراتيجي لتغيير فعلي في توجهات تونس إما برحيل الرئيس الحالي قيس سعيد أو بحدوث مستجدات إقليمية بالمنطقة . كما أن تبني المغرب لسياسة الجمود السياسي والدبلوماسي من خلال اعتماد سياسة “البراغماتية الصامتة تجاه تونس، مع تجنب أي تصعيد مباشر ؛ وعدم منح أي إشارات إيجابية توحي بانفراج قريب معها ،قد يكون أداة ضغط غير مباشرة، لإبراز أن إعادة ضبط العلاقات لن تكون ممكنة إلا إذا استعادت تونس موقفها الحيادي في قضية المغرب المحورية، واستعادة استقلالية قرارها السياسي بعيدا عن أية تأثيرات خارجية تحد من قدرتها على بناء علاقات متوازنة مع شركائها الإقليميين.
الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها