لماذا وإلى أين ؟

تجديد الموقف الأمريكي.. الدبلوماسية الملكية تنتصر في ترسيخ سردية الصحراء المغربية بثبات وحكمة

*الدكتور توفيق عطيفي 

يأتي تجديد موقف الولايات المتحدة الأمريكية من قضية الصحراء المغربية، على لسان السيناتور ووزير الخارجية الأمريكي، ليُعيد ترتيب الأوراق الجيوسياسية في شمال إفريقيا والساحل، ويؤكد مجددًا الوزن المتزايد للدبلوماسية المغربية ومتانة التحالف المغربي-الأمريكي الممتد لقرون، حيث أنه ومنذ اعتراف المغرب بالولايات المتحدة الأمريكية سنة 1777، كأول دولة في العالم تعترف بالاستقلال الأمريكي، شكّل البلدان شراكة استراتيجية تجاوزت الأبعاد الدبلوماسية إلى مجالات الأمن، الاقتصاد، ومكافحة الإرهاب. وقد تعزز هذا التحالف خلال الحرب الباردة، وفي خضمّ التحولات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ ظل المغرب شريكًا موثوقًا به للولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالاستقرار الإقليمي ومحاربة التطرف.

ورغم التوجس الذي ساد العلاقات بين البلدين نسبيا خلال ولاية الرئيس الديموقراطي جو بايدن، حيث طبع موقف إدارته نوع من “الجمود الحذر”، إلا أن جماعات الضغط المغربية نجحت في الحفاظ على المكاسب الدبلوماسية التي حققها المغرب في عهد دونالد ترامب، خصوصًا الاعتراف بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية. لقد استطاعت هذه اللوبيات، المؤطرة بمقاربات عقلانية ومهنية، التأكيد على أن موقف واشنطن من قضية الصحراء ليس موقف حزب أو إدارة، بل خيار استراتيجي للدولة الأمريكية، مبني على الواقعية السياسية ورؤية أمنية شاملة لاستقرار المنطقة.

إن إعلان ماركو روبيو الأخير، الداعم صراحةً للسيادة المغربية الكاملة على الصحراء الغربية ( كتوصيف جغرافي مقابل الصحراء الشرقية)، والمعتبر لمقترح الحكم الذاتي كحل “واقعي وجدّي وذي مصداقية”، يعيد الزخم للموقف الأمريكي ويوجه رسالة قوية مفادها أن واشنطن لن تعود إلى منطق “الغموض البناء”، بل تتجه نحو بلورة دعم صريح للخيار المغربي كحل قابل للتنفيذ في ظل رعاية أممية. وهذا الموقف لا ينفصل عن رغبة أمريكية في تحقيق استقرار دائم في منطقة الساحل، عبر دعم الأنظمة الوطنية ذات الشرعية الشعبية، وتهميش الكيانات الانفصالية التي تؤجج الفوضى وتغذي الإرهاب العابر للحدود والذي يوفر البيئات الآسنة لنشاطات الميليشيات المسلحة.

إن التحولات الدولية المتسارعة في ظل عودة الترامبية كظاهرة في العلاقات الدولية، ستسهم لا محال في ديناميات دولية داعمة للطرح المغربي، ولنا أن نتأمل للفهم كيف أن موقف روبيو جاء أيضًا بعد أقل من أسبوع من مداخلة النائب البريطاني أندرو ميتشل، المعروف بصداقته للمغرب، في البرلمان البريطاني، حيث تساءل صراحة عن استعداد الحكومة البريطانية للانضمام إلى الدول الداعمة لمقترح الحكم الذاتي المغربي، مثل فرنسا، إسبانيا، والولايات المتحدة. هذه المؤشرات تعكس تبلور إجماع أوروبي متصاعد نحو تبنّي المقاربة المغربية، كخيار واقعي يعكس توازن المصالح الإقليمية.

وفي المقابل، ينظر إلى هذه الإشارات والسلوكيات الملموسة بأنها ورطت الأشقاء الجزائريين ووضعتهم في مأزق إقليمي عميق كنتيجة حتمية وخلفية لسلوكياتها العدوانية في الساحل، آخرها إسقاط طائرة استطلاع تابعة للجيش المالي أثناء عملية ضد فلول الإرهاب والجماعات المسلحة، هذا الفعل يُقرَأ كمؤشر على رغبة الجزائر في عرقلة جهود الأمن الجماعي، ويضعها في مواجهة مباشرة مع جيرانها، خصوصًا المغرب ودول الساحل التي باتت ترى في الجزائر عقبة أمام السلم والاستقرار.

يتزامن هذا كله مع أوضاع داخلية متوترة في الجزائر، حيث يعاني النظام من أزمة شرعية، في ظل انعدام الشفافية، تفشي الفساد، وتبديد ثروات البلاد على سباق تسلح غير منتج، عكس المغرب الذي انكبّ على الاستثمار في البنى التحتية، الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا، محققًا مؤشرات تنموية جاذبة للاستثمار الأجنبي.

إن تجديد الموقف الأمريكي من قضية الصحراء المغربية ليس معزولًا عن سياق دولي متغير، بل هو جزء من عملية إعادة ترتيب الأولويات الجيوسياسية. وفي ظل هذا المناخ، تبرز الدبلوماسية المغربية كفاعل عاقل وناجع، يُقدّم مقترحات قابلة للتنفيذ تحظى بقبول دولي متزايد، مقابل تآكل المصداقية الجزائرية وسط محيط إقليمي يضيق ذرعًا بالمغامرات السياسية والعسكرية. وفي ضوء علم السياسة والعلاقات الدولية، يبدو أن المعركة أصبحت معركة سردية وشرعية، والمغرب يمضي بثبات في ترسيخ سرديته باعتبارها الأقرب إلى الواقعية، والأجدر بتحقيق السلام العادل والدائم.

وفي ذات السياق، يصبح من الضروري أن تولي مراكز الأبحاث والجماعات العلمية المتخصصة— سواء في المغرب أو في الدوائر الدولية التي ينشط بها الباحثون المغاربة —أولوية قصوى لتكثيف الجهود العلمية. إذ يمثل تعزيز الدراسات والبحوث المستقلة حول القضية الوطنية وسيلة فعّالة لكسب المزيد من الدعم الدولي لترسيخ السردية المغربية. هذه المساعي تُسهم في بناء رأي عام بحثي وعلمي دولي يدعم موقف المغرب في المحافل العلمية العالمية، لتعمل بمثابة إسناد دبلوماسي موازي للدبلوماسية الرسمية للدولة، يصوغ بذلك بُعدًا جديدًا ومتكاملاً في استراتيجية الدفاع عن القضية الوطنية. 

*أستاذ وباحث في العلوم السياسية

الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي “آشكاين” وإنما عن رأي صاحبها.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

0
أضف تعليقكx
()
x