لماذا وإلى أين ؟

محمد سعد العلمي.. قصص من نار ونور

في زمنٍ طغت فيه السياسة على سائر مجالات الحياة، يظل الأدب محتفظًا بسحره القديم، ذلك السحر الذي لا يُقاوَم، كما لو كان طيفًا لا يفارق أرواحًا خُلقت له، كروح الوزير والسفير الأسبق محمد سعد العلمي.
إن للأدب فتنةً لا تنطفئ، فإذا ما استبدت بنفس، ظلت تلك النفس وفية له، لا تتخلص منه أبدًا.
هو شغفٌ لا يُضاهيه سوى حب أولٍ لا يشيخ، مهما ابتعد، ومهما فرقت بينه وبين محبوبه الأمكنة والمسافات والمهام والملمّات، لا يلبث أن يعود، مباغتًا، ليوقظ القلب، ويشحذ القلم.
وهذا بالضبط ما وقع مع محمد سعد العلمي، حين فاجأنا بعودة لافتة إلى معشوقته الأولى: الكتابة الإبداعية.
لقد عاد إلينا، لا كسياسي هذه المرة، بل ككاتب حالم، بقلب شاعر، ويراع ناثر، يمتلك لياقة سردية رفيعة، حاملاً إلينا باكورة أعماله الأدبية: “الحلم في بطن الحوت”.
بهذه العودة، يثبت العلمي أن العلاقة بين الكاتب الحقيقي والأدب ليست علاقة هواية أو ترف، بل ارتباطًا عضويًا، خفيًا، يتجدد كلما لاحت بارقة، أو لامس القلبُ نداء الكتابة.
هي كيمياء لا تزول، وميثاق لا ينفك، يربط الروح بمصدرها الأول: الحبر، والورق، والحلم.
تأخذنا مجموعته القصصية في رحلة بين الواقع والأسطورة، بين الوطن والذات، بين الحلم والسياسة. ومنذ العنوان، يتضح أن هذا العمل ليس عاديًا، بل محمّل بكثافة رمزية وشاعرية تفتح أبوابًا واسعة للتأويل والتأمل.
“الحلم في بطن الحوت” ليس مجرد عنوان جميل؛ بل هو اختزال لعالم متشابك.
“الحلم” هنا ليس أمنية طائشة، أو فعلًا ساذجًا، بل فعل مقاومة، وموقف من اليأس والانتكاس.
أما “بطن الحوت”، فليست ظلمةً أو غيابةَ جبٍ فحسب، بل استعارة كثيفة لواقع خانق، يُبتلع فيه الحالمون، وتتحطم فيه الأحلام، لينتهوا نهايات مأساوية.


يبدو أن سعد العلمي، وهو السياسي المجرّب، قد قرر أن يمنح السياسة نفسها أجنحة الأدب، حسم رأيه بعد طول تردد، فارتأى أن يضم الضرتين: الكلمة الحرة، والموقف الصلب، في سفرٍ واحد، حيث الأدب هو الغلاف، والسياسة مضمونه المتواري.
هذا الحلم، الذي اصطفاه الكاتب ليجعله عتبة نصّه، يشي منذ البداية بقضية الإبداع لديه، ذلك الإبداع الذي لا يُراد له أن يكون ترفًا جماليًا، بل رسالة مضمخة بالأمل، محفوفة بالكدّ والعطاء من أجل مصلحة الوطن.
الحلم، كما يراه سعد العلمي، هو أن نظلّ نتطلع دائمًا إلى ما هو أبعد من الممكن، مهما ضاقت علينا السبل، واشتدت بنا الأزمات.
هو أن نرسم مستقبلًا مشرقًا رغم عتمة الواقع، أن نتشبّث بالحياة، حتى لو كابدناها من داخل “بطن الحوت”.
وقد وفّق العلمي أيما توفيق في توظيف هذه الاستعارة الرفيعة لقصة النبي يونس. إنها استعارة من طراز “السهل الممتنع”، لا يبرع فيها إلا من جمع بين صنعة الأدب وبصيرة السياسة.
في هذا السياق، يغدو “بطن الحوت” كناية عن قتام الواقع، ذلك الواقع المثخن بالجراح، المليء بالتحديات.
هنا، تتجلى براعة الكاتب في جعل القصة القصيرة جسرًا لتعبير مكثف عن إرادة لا تنكسر، وعن عزيمة تستمد قوتها من إيمان راسخ، لا فقط بإمكانية التغيير، بل بضرورته الحتمية، مهما بدا الهدف بعيد المنال.
قصصه القصيرة هي رجع صدى لروح وثّابة، عايشتها الحركة الوطنية المغربية، التي كان سعد العلمي واحدًا من أبنائها الأوفياء في بدايات مسيرته الفكرية والسياسية.
تلك الحركة التي آمنت دائمًا بأن الشعب هو منبع التحول، والبوصلة التي تهدي إلى الكرامة والعزة، في زمن الاستعمار كما في زمن الجهاد لبناء دولة الاستقلال.
ولعل الناقد نجيب العوفي، في تقديمه للمجموعة، قال ما يلخص هذا المعنى ببلاغة:
لقد عاد سعد العلمي، كما يقول مقدمه، لينتصر للأدب أخيرًا.
في هذه المقدمة، وقبل أن نخوض غمار القصص، نلمس ذلك التناص بين كلمات الناقد وما خطر لي منذ الوهلة الأولى حين تحصلت على المجموعة.
كتب العوفي بنبرة حنين وحسرة، على أديب اختطفته السياسة منا لعقود، وعلى فنان حُرمنا من صوته الإبداعي بسبب الصحافة تارة، والسياسة في أغلب الأوقات.
إنه ليقر صراحة بأن السياسة والصحافة معًا قد سرقتا منا هذا الكاتب الفذّ، الذي عاد الآن، وقد نضجت لغته، واشتعل خياله، واستوت تجربته بعدما خبرته الحياة وخبرها.
لكنه، وهو الكاتب الذكي، لم يختر أن يدوّن هذا النضج في رواية، بل آثر القصة القصيرة، بل القصة المكثفة، اللامعة، كما لو أنه يختصر الزمن، ويعوض الوقت الضائع.
بأدب محمّل بالرمز، مشحون بالدلالات، يعيد صياغة معاني الأحداث التي عاشها، سياسيًا، بلغة تنتمي إلى الحلم أكثر من الواقع.
في القصة الأولى، “لوحة”، يرسم سعد العلمي مشهدًا سرياليًا مكثفًا، لا يتجاوز صفحتين، لكنه مشبع بالشخصيات والدلالات.
هنا تتحول اللوحة من كيانٍ مرسوم إلى كيان رمزي.
فاللوحة قد تكون الوطن ذاته، ذلك الفضاء الذي تتصارع فوقه التوقعات، وتتقاطع فيه الإرادات.
الحصان في اللوحة رمزٌ للحركة الوطنية، الحلم الذي راود الأجيال الأولى، الراغبة في وطنٍ تُزهر فيه الحرية، وتعلو فيه كرامة الإنسان.
والمهرة هي الشباب، الجيل الغضّ، الحالم بمستقبل أكثر عدلًا وبهاء.
أما المرأة الفاتنة، فهي الشعب، بتطلعاته وآماله، بجراحه وصبره، وشوقه إلى الخلاص.
والرسام؟ هو السلطة، ذلك الفاعل الخفي، الذي يملك الفرشاة، ويملك معها إمكانية الإبداع… أو التشويه.
وبين كل هؤلاء، يقف بطل القصة: متأملًا، مترجيًا، متوجهًا إلى الرسام برجاء طفوليّ، بأن يرسم جدائل ذهبية على كتفي المرأة، كأنما يستنجد بالجمال ليغلب القبح، وبالأمل ليهزم اليأس، وليقول: يا وطني، تستحق لوحة أجمل!
أما في قصة “فلامينكو”، فنحن أمام مشهد آخر، لكنه لا يُقرأ فقط، بل يُرقص ويُسمع ويُرى.
لوحةٌ حيّة، تنبض بالحركة، لغة مشبعة بالشعرية، مكتنزة بالإيقاع، كأن الكاتب كتبها على نَفَس راقصة، ترتجف تحت الضوء، وتتلوى في نشوة التعبير.
الفلامينكو، هنا، ليست مجرد رقصة، بل استعارة كبرى للعلاقة المتوترة بين التسلط والتمرد، بين الاقتراب والابتعاد، بين الذوبان في الحب والهروب منه.
كل خطوة في الرقصة، كل التواء في الجسد، هو تعبير عن جدلية الحياة، عن عذاباتها وانخطافاتها، آهاتها، أفراحها، أتراحها، استيهاماتها وشجونها.
في خلفية هذا النص، يلوح الحنين الأندلسي.
تطلّ غرناطة من بين السطور، كما لو أن الكاتب يبوح بوجدٍ دفين إلى فردوس مفقود، حضارة طُمست، وجمال انزلق من بين أصابع الزمان.
وفي المشهد الختامي، تقبل الراقصة المغنية المتفرج قبلة هوائية، لا لتودعه فحسب، بل لتلخص كل شيء:
اتحاد الفن بالإنسان، انصهار الحلم بالواقع، ولحظة نشوةٍ يعانق فيها الممكنُ المستحيل.
ثم نصل إلى القصة الباك
ورة، قلب المجموعة، وعنوانها: “الحلم في بطن الحوت”، وكأنها حجر الزاوية الذي يشد البناء كله.
قصة مشحونة بالرموز، عميقة، تنضح برؤية سياسية وإنسانية في آنٍ معًا.
يتحول فيها الكاتب من سياسي إلى قاصّ، يحكي مأساة الإنسان في الدول النامية، ووجعه المزمن في مواجهة القوى الكبرى، حيث الحالمون يُبتلعون كما يُبتلع يونس في ظلمة الحوت.
الحوت، هنا، رمزٌ مركب: هو الإمبريالية، هو السلطة، هو القمع، وهو أيضًا ذلك الكيان الهائل الذي يخنق الحلم، ويبتلع من يحاول النجاة.

محمد سعد العلمي


أما الطفل الذي يركض على الشاطئ، فيمثل صوت العالم الثالث بإنسانه المهمش، الذي لا يملك قلمًا ولا ورقة، لكنه يملك حلمًا يصارع به الأهوال.
هو، بجيوبه المثقوبة التي لا تلوم على شيء، صدى للفقر البنيوي، صورة للاقتصاد المنخور والمنهوب، لكنه طفل عنيد، سينبت له أديبنا أظافر ليسطر حلمه رغم الداء والأداء، حتى ولو كانت الكلمات تُقضم من على سطح الماء.
السمكات الصغيرة التي تمحو الحروف، رمزٌ للرقابة، أو للمتربصين بالحلم من الداخل، أولئك الذين يُغيرون معاني الكلمات، ويشوّشون على الرسائل الصادقة.
في النهاية، يظل الطفل وحيدًا، في مواجهة الحوت. لكنه لا ينهزم.
يعود إلى البيت، وهو ما زال يفكر… في الحلم.
هكذا، يحافظ سعد العلمي على الأمل، وإن بدا هذا الأمل هشًّا، أو مستحيلًا.
إن ما كتبه في هذه المجموعة لا ينتمي فقط إلى جنس الأدب، ولا إلى خطاب السياسة، بل إلى المنطقة الفاصلة بينهما، حيث الحبر يُسال لا ليُقنع، بل ليُبقي على قيد الحياة.
قصص مثل “غرفة مأجورة”، “من يأمن البحر؟”، “موكب رسمي”، “كابوس”، “غيظ”، و”حسرة”، كلها تتطلب قراءة ثانية، وثالثة، بما تحمله من تأويلات، وشخصيات رمزية، ورسائل مخبوءة.
إن “الحلم في بطن الحوت” ليست مجرد مجموعة قصصية، بل تجربة شعورية مكتملة، بيان وجداني، يلامس اللغة الصوفية أحيانًا، ويركن إلى الرمز كثيرًا، ليقول ما لم تستطع السياسة أن تقوله صراحة.
إنه في زمنٍ يتقلص فيه المعنى، ويزداد فيه الصخب، يبقى الأدب هو الملاذ، وتبقى اللغة هي الحصن، ويظل الحلم هو الأمل الأخير.
نعم، الأدب لا يموت.
بل يعود دائمًا، حتى من رحم السياسة، ليُبقي فينا جذوة الحياة، ولو كان ذلك داخل ظلمات الحوت.

احصل على تحديثات فورية مباشرة على جهازك ، اشترك الآن

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

1 تعليق
Inline Feedbacks
View all comments
احمد
المعلق(ة)
19 أبريل 2025 13:33

حين تصيب السياسية البلاوي، ينبثق الادب ليجيب على اسئلة عالقة واحلام مكبوثة وتطلعات من وسط الاشواك والاشواق، وذالك هو سحر الاذب الذي ياخد مكانه بين الناس لرسم بريق من الامل وسط أمة قارئة وغير مستسلمة للإحباط.

يستخدم موقع الويب هذا ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد

1
0
أضف تعليقكx
()
x