2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]

د خالد فتحي
منذ مجيئ ترامب للبيت الأبيض،وأنا أتابع بشغف لقاءاته مع قادة الدول التي يدعوها لزيارة واشنطن، فهي نموذج جديد وفريد من التواصل السياسي يحمل علامة ترامب ، وكنت كلما أشاهد لقاء من هذه اللقاءات بكل ما يتخلله من فرجة مضمونة ،و من صدمات، وانفعالات، إلا و أحس كما لو أني في السينما أو بصدد رؤية تلفزيون الواقع . مرت أولا حلقة الملك عبد الله ،ثم تبعه ماكرون ثانيا ،فستارمز بريطانيا ثالثا ، وكانت كلها حلقات على مستوى عال من التشويق …ثم استمر الأمر مع مجيء المغضوب عليه زيلنسكي، فبلغ معه هذا التشويق ذروته .حلقته كانت مثيرة جدا فيها كل توابل الفنطازيا ؛ مشادات كلامية ،وحركات جسد،وإهانات قوية ،ثم طرد مدوي ، وبعد كل ذلك تهديد صريح من ترامب بأنه لن يستقبل الرئيس الأوكراني مجددا إلا إذا آمن بالسلام .كل هذه المشاهد جعلتي أستقر أخيرا على عنوان مناسب للبرنامج العابر للقارات الذي يبثه ترامب مجانا لكل العالم : ترامب شو .
وإني اذ اسجل باسمي براءة تسجيل هذه التسمية ،لأكاد أجزم أن هذا البرنامج ولد ناجحا ….فهو البرنامج الذي تنقله كل قنوات التلفزيون في العالم، فيراه مئات الملايين في كل أرجاء الأرض، …البرنامج الذي يسهر بعده المحللون ويختصمون ؛ فيصفون ترامب بكل النعوت؛ فظ ،قاس، ،متعجرف،متضخم الأنا، برجماتي ،سيؤسس لديكتاتورية أمريكية ،خائن لقيم الغرب الجماعي ،عميل لروسيا،منبطح لبوتين ،… وهو ايضا مدافع صلب عن مصالح الأمريكيين ،رجل سلام ،صاحب صفقات … وهكذا دواليك ظلت تلك التعاليق والتوصيفات تنهال ويتفنن فيها ،حتى صار ترامب وقبل مرور مائة يوم على تسلمه السلطة ،و بكل استحقاق النجم التلفزيوني الأول عالميا – وأنا هنا احلل الموضوع من مقاربة اعلامية لاسياسية-فالكل صار مدمنا على البرنامج ، يترقب مجلسه ، وطلته من البيت الأبيض رفقة ضيوف الحلقة بفارغ الصبر .
ولكن هل هم ضيوف حقا ؟….هم فعلا كذلك وفق التقليد الدبلوماسي، ،لكن واقع حالهم حين يقعدون بجانب ترامب يشير إلى أنهم يظهرون كما لو كانوا متهمين عليهم أن يثبثوا براءتهم، وأن يخرجوا بأقل الخسائرمن التزال الاعلامي معه . كل المشاهد تفشي ذلك ؛ارتباكهم، توترهم، بحثهم عن الكلمات المناسبة المنقذة ، ،توجسهم من اللايقين الذي يمثله الحديث مع رئيس متقلب المزاج لايمكن توقع قراراته ولا خرجاته،والذي ينتقي له عبارات بسيطة، لكنها تلخص الوضع و تشرح المطلوب منهم بالسهل الممتنع .
لقد أصبح القدوم الى الولايات المتحدة،والمشاركة في شو ترامب ،اختبارا عسيرا، ومحنة شخصية لكل رئيس أو ملك يأزف دوره . لأنهم يستجوبون أو يستنطقون من طرف ترامب و يناقشون معه القضايا التي تهمهم في علاقتهم بامريكا مباشرة وعلانية أمام وسائل الإعلام .كل شيء عاد مفضوحا مع ترامب ، بل و يتم على الهواء مباشرة .على الضيف أو الرئيس أن يتحضر جيدا للبرنامج، و أن يهيأ نفسه للمفاجآت وللأسئلة المربكة ….أن يكون يقظا سريع البديهة ،قادرا على المناورة، وإن استدعى الأمر قادرا على المواجهة .أحيانا كثيرة أنسى انني امام رئيس، فيخيل إلى أن ترامب مذيع يبحث بدوره عن المشاهدات وعن البوز ،إلا أنه بوزه مختلف ..بوز الأقوياء المعتدين بقوتهم.
الملك عبد الله كان أول الضيوف ،وقد كان حكيما جدا، فآثر المهادنة،تجنب بطريقته وبجهد جهيد ان ينساق وراء مطالب ترامب بتهجير سكان غزة ،وزاد، فاستدرك بتدوينة أشبه ببيان حقيقة أشهر فيها لاءاته في وجه ترامب. الرئيس ماكرون، استفاد من كونه ثاني ضيف بعده ، ولقد اختار ان يمهد لرحلته إلى واشنطن بإعلان ماسيقوله لترامب بملعبه في فرنسا و على مواقع التواصل الاجتماعي ،وبالتالي حاول ان يجهض أية مفاجأة غير متوقعة منه ،ومع ذلك ،قد سلم عليه ترامب باشكال غريبة، وربت على ركبيته كأنه يستصغره ، وفي النهاية لم يسلم ماكرون هذا من الانتقادات في بلده كون بعض الفرنسيين اعتبروا أنه خاطبهم أسدا بباريس وجلس نعامة بواشنطن ، ستارمز بدوره لم ينج من سخرية ترامب خلال الشو، فقد قاطعه أثناء اللقاءليسأله قائلا ” هل تستطيعون مواجهة روسيا بمفردكم ؟”.الجواب ماشاهده العالم؛ ابتسم الضيف بذل وصغار وعلت قهقهات الحاضرين.
مع زيلنسكي ،سيحقق برنامج ترامب شو ذروة المتعة والفرجة- من وجهة نظر جمهور البرنامج طبعا – لقد أهين زيلنسكي هذا وعير بلباسه غير المناسب ،و قيل له فوق ذلك و جهرا بأنه لا يستطيع شيئا دون الولايات المتحدة الأمريكية،وأنه ليس في وضع من يمكنه أن يملي على واشنطن ،فهو في موقف ضعف و صفر اليدين من أية أوراق للمساومة بها .لقد تم هذا الاستفزاز والإذلال على رؤوس الأشهاد في سابقة دبلوماسية لم يشهد لها التاريخ مثالا- لكني ربما رأيت مثلها في مسلسل تلفزيوني صور إهانة هولاكو للخليفة المستعصم حين جاءه متذللا يسترضيه لإنقاذ بغداد ،فقتله تحت سنابك الخيل مع اختلاف بين زيلنسكي الذي قاوم والمستعمل الذي سلم وبين ترامب وهولاكو .بوتين هو من غزا أوكرانيا بينما يريد ان يقر السلام ويستفيد.
في ترامب شو،يمثل ترامب مدير البرنامج، بينما يشكل الصحافيون جمهور الشو الصغير ،و يشكل العالم كله الجمهور الكبير المستهدف ،اما زعماء الدول والسياسيون ، فهم موضوع الفرجة.
السؤال هو ؛ هل يتعمد ترامب أن يحرج ضيوفه ،المؤكد أنه يحرجهم، لأن الاحراج يضمن الاثارة ،و هو الأسلوب الذي يتقنه دون ان يتعمده . .ترامب غير غريب عن عالم التلفزيون والإعلام. .و هو الآن ينقل خبرته تلك لعمله هذا كرئيس .ترامب كان دائما يراهن على الشهرة والنجومية عبر المشاركة في بعض برامج تلفزيون الواقع لمعالجة مشاكله المالية ومراكمة الأرباح، واذاعة صورته بين الامريكيين كشخص ناجح في الحياة.
لقد نجح ترامب بالإعلام قبل السياسة،وبالتالي لن يفرط وهو رئيس في شيء جربه ولمس نتائجه وهو نجم تلفزة ،والدليل أنه اختار عددا من معاونيه من فوكس نيوز ومن الإعلام : عين بيت هيكسيت لقيادة البتاغون وهو مجرد مذيع صباحي يحقق نسب مشاهدة عالية،والدكتور اوز لإدارة التأمين الصحي ، ولينا ماك ماهون للتعليم ،وكلهم نجوم في تلفزيون الواقع.
في هذه الولاية ،ليس لترامب مايخسره ،فلاولاية ثالثة يطمع فيها ،ولذلك هو يطبق مايحلو ويعن له ،وبما أنه صنيعة الإعلام والتلفزيون أولا ،فليعد كما هي العادة للحبيب الأول.
سيضرب كل من يعتزم ملاقاته في البيت الابيض ألف حساب ،وسيطرح أمامه معاونوه ومستشاروه كل احتمالات تطور لقائه مع ترامب .ومع ذلك سيأتيه متوجسا متوترا .
ترامب شو محك للرؤساء، وربما هو شعبوية مبالغ فيها من جانب ترامب ،لكنها في رأيي شعبوية تعيد بعض الدفئ للسياسة،وتنزل بها إلى عموم الناس لانها شعبوية تتماس مع الواقعية . اسلوب ترامب فج مفيد اذ سيحرم الكثير من زعماء العالم من هامش التصنع أمام الكاميرات ،سيحيلهم بدون رتوش ولامساحيق ولاتكلف ولا حتى كواليس أمام شعوبهم .ترامب شو فرجة ستدوم أربع سنوات ولربما تدوم أكثر إذا غير ترامب الدستور أو خلفه نائبه جي دي فانس في الانتخابات القادمة. بقي أن نرجو بقاء البرنامج ، في حدود الفرجة، و أن لايجلب ويلات ومصائب جديدة للأرض.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.