2024 © - أشكاين جميع الحقوق محفوظة - [email protected]
هل انتهى عصر الدولار القوي؟

بقلم د. ادريس الفينة*
تخضع سياسة الدولار القوي التقليدية، التي اعتُبرت لفترة طويلة حجر الزاوية في العقيدة النقدية للولايات المتحدة، لمراجعة جذرية بسبب دورها في التحولات الهيكلية التي أضعفت الاقتصاد الأمريكي وأسهمت في صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية. لقد أدت هذه السياسة، التي دعمها الاحتياطي الفيدرالي بشكل مستمر، إلى تحول استراتيجي في بنية الاقتصاد الأمريكي، إذ انتقل من الاعتماد على قاعدة صناعية صلبة إلى نموذج يقوم على المضاربة المالية، والخدمات، وأنماط استهلاك مفرطة وغير مستدامة تفتقر إلى دعم إنتاجي حقيقي. وفي ظل هذا السياق المتغير، اتخذ الرئيس دونالد ترامب ولأول مرة في تاريخ امريكا موقفاً صريحاً مناهضاً لمفهوم الدولار القوي، حيث يعتبره عبئاً كبيراً على الاقتصاد الوطني وقنبلة موقوتة تهدد الاستقرار المستقبلي للولايات المتحدة.
لقد فرض الدعم المصطنع لقيمة الدولار تكاليف اقتصادية جسيمة. فمن جهة، ساهم هذا الدعم في تضخم الدين العام الأمريكي، محوّلاً الولايات المتحدة إلى اقتصاد استهلاكي ضخم يعتمد بشكل مفرط على تدفقات رأس المال الخارجي لتمويل حاجاته. فعلى سبيل المثال، بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين حوالي 320 مليار دولار سنة 2023، ما يعكس عمق الاختلال الذي فاقمته هذه السياسة. ومن جهة أخرى، أدى الدولار القوي إلى تآكل القاعدة الصناعية الأمريكية، إذ قامت العديد من الشركات الكبرى بنقل عملياتها الإنتاجية إلى الصين للاستفادة من انخفاض تكاليف التصنيع، والحوافز الضريبية والعقارية، وضعف العملة الصينية. وبين عامي 2000 و 2024، فقدت الولايات المتحدة ما يناهز 10 ملايين وظيفة صناعية، معظمها تم ترحيلها إلى الخارج، ولا سيما إلى الصين واغلق اكثر من 340000 معمل عبر التراب الأمريكي .
كانت الشركات متعددة الجنسيات في السابق تمثل دعامات الاقتصاد الأمريكي، لكنها اليوم تخدم في المقام الأول المصالح الاقتصادية للصين ودولا اخرى. فبعد أن نقلت مصانعها إلى الأراضي الصينية، تعيد هذه الشركات تصدير منتجاتها إلى السوق الأمريكية، بينما تقوم بتحويل أرباحها إلى ملاذات ضريبية عبر العالم. في الوقت ذاته، تعكس مؤشرات سوق الأسهم الأمريكية ازدهاراً ظاهرياً لهذه الشركات، إلا أن هذا النمو يتحقق في الغالب داخل اقتصادات مثل الصين وكندا والمكسيك، وليس على الأراضي الأمريكية. وتتمثل الاستراتيجية هنا في استنزاف المدخرات الأمريكية المتبقية وتوجيهها في شكل استثمارات إلى الخارج، وخصوصاً نحو الصين، ما يؤدي إلى تعميق العجز التجاري وتفكيك البنية الاقتصادية الداخلية.
في المقابل، حققت الصين نمواً اقتصادياً لافتاً، حيث ارتفع ناتجها المحلي الإجمالي من 1.2 تريليون دولار سنة 2000 إلى 17,8 تريليون دولار سنة 2023، بينما ارتفع الناتج المحلي للولايات المتحدة من 10.3 تريليون دولار إلى 27,4 تريليون دولار خلال الفترة نفسها. ويُظهر هذا التفاوت تحولاً جذرياً في ديناميكيات القوة الاقتصادية العالمية. وقد نجحت الصين بمهارة في استغلال النظريات الاقتصادية وامتيازات منظمة التجارة العالمية، إضافة إلى أدوات المؤسسات المالية الدولية، لوضع سياسات تهدف إلى تقويض الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص الاقتصاد الأمريكي. ويمكن اعتبار خفض قيمة اليوان الصيني مثالاً على سياسة تجارية تقليدية تهدف إلى دعم الفوائض التجارية على حساب المنافسين.
يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال مفهوم “المرض الهولندي”، حيث يؤدي ارتفاع قيمة العملة إلى تراجع القدرة التنافسية للقطاع الصناعي، وبالتالي إلى عملية تصنيع عكسي. وفي حالة الولايات المتحدة، أدى الدولار القوي إلى جعل الصادرات الأمريكية أقل قدرة على المنافسة، فيما أصبحت الواردات أرخص، مما شجع نمطاً استهلاكياً على حساب الإنتاج المحلي. في المقابل، تبنت الصين سياسة تجارية قائمة على المذهب المركنتيلي، حافظت من خلالها على عملة منخفضة القيمة لدعم صادراتها وإضعاف خصومها الاقتصاديين.
في ضوء هذه التطورات، أعلنت إدارة ترامب عن توجه واضح نحو التخلي عن سياسة الدولار القوي. ويعكس هذا التغير اعترافاً متأخراً بالمخاطر البنيوية التي تطرحها هذه السياسة، ومحاولة لإعادة توجيه الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية نحو مسار أكثر استدامة. ويتمثل الهدف الأساسي في وقف اللعبة الاقتصادية التي أتقنتها الصين، قبل أن تصل تداعياتها إلى نقطة اللاعودة.
قد يؤدي هذا التحول نحو دولار أضعف إلى إنعاش القطاع الصناعي الأمريكي من خلال تعزيز القدرة التنافسية للصادرات وتقليص جاذبية الواردات. غير أن هذا الانتقال محفوف بتحديات جمّة، من بينها مخاطر التضخم وتعقيد العلاقات التجارية العالمية. كما من المرجح أن تواجه هذه السياسة معارضة من طرف الشركات متعددة الجنسيات التي راكمت أرباحاً طائلة بفضل النظام القائم، ولا ترغب في التخلي عن مزايا سلاسل التوريد العابرة للحدود.
يبدو إدا أن عصر الدولار القوي قد وصل نهايته، بعد أن تكشّفت آثاره السلبية على الاقتصاد الأمريكي بشكل متزايد. ويمثل قرار إدارة ترامب بالتخلي عن هذا التوجه لحظة حاسمة في مسار إعادة تشكيل الاستراتيجية الاقتصادية الأمريكية، بهدف التصدي للتحديات التي تفرضها المنافسة العالمية، وعلى رأسها التحدي الصيني. ومع ذلك، فإن نجاح هذا التحول سيعتمد على القدرة على الموازنة الدقيقة بين إعادة بناء القدرات الإنتاجية المحلية والتعامل مع تركة الخيارات الاقتصادية السابقة.
*خبير اقتصادي
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي آشكاين وإنما عن رأي صاحبها.